ساحة

مراكش.. مدينة تزينها الروايات والقصائد


كشـ24 نشر في: 5 مارس 2015

مراكش.. مدينة تزينها الروايات والقصائد
 
تحتاج حكاية الكتاب والفنانين العرب والغربيين مع مدن المغرب إلى مجلدات كاملة لرصدها. يستحيل أن نتحدث، اليوم، عن مدينة طنجة، مثلا من دون أن نلتفت إلى علاقتها بعدد من الكتاب العالميين المشهورين، أمثال ويليام بوروز وترومان كابوتي ومارك توين وتنيسي ويليامز وبول بولز وجان جينيه، حيث يذهب بعض المهتمين بالتاريخ المعاصر لـ«مدينة البوغاز»، إلى القول إن «طنجة مدينة صنعها الأدباء والميناء». 
 
كذلك الحال مع مدينة مراكش، حيث تحول عدد من الكتاب والفنانين إلى حراس للتراث المادي واللامادي لمدينة استهوت، على مدى تاريخها المعاصر، الكتاب، كما سحرت الفنانين، فأرخوا لمرورهم منها. 
مبدعون قدموا إليها من شتى بقاع العالم ومن مختلف مجالات الإبداع، لقدرتها على أن توفر لهم جوا مناسبا لتفجير المخيلة، وأن تحرض في داخلهم فرص الإبداع الراقي.

مبدعون عرب وغربيون، هاموا بها، فأعطوها من رحيق إبداعاتهم بقدر ما أعطتهم من سحرها ودفئها: من السوري أدونيس والعراقي سعدي يوسف، إلى الإسباني خوان غويتصولو والألماني هانس فيرنر غيردتس، وقبلهم الفرنسي جاك ماجوريل والألماني إلياس كانيتي والفرنسي كلود أوليي، من دون نسيان الحديث عن عشاق آخرين، اختاروا الإقامة والاستثمار الثقافي بها، أمثال الهولندي بيرت فلينت والأميركية باتي كود بي بيرش والسويسرية سوزانا بيدرمان إليوت والفرنسي إيف سان لوران.
 
في مراكش، تبدو حدائق ماجوريل، مثلا، أكثر من مجرد مساحة خضراء تستقطب سياحا من مختلف قارات العالم: إنها، قبل ذلك، تجسيد لفكرة مراكش المحتضنة لزوارها، بمختلف أجناسهم وطبقاتهم ودياناتهم وتوجهاتهم، الفكرية والاجتماعية والسياسية ؛مراكش التي سبق أن كتب عنها محمد بن عبد الله الموقت (1894 - 1949)، في كتاب «الرحلة المراكشية»: «إن أول مظهر من مظاهر جمال الطبيعة الذي يشاهده الوافد على هذه العاصمة المراكشية تلك الابتسامات الدائمة التي يراها مرسومة في ثغر كل منظر من مناظرها الخلابة وفي وجوه جميع سكانها وأهاليها بل في طلعة كل ما تضمه جدرانها، وتحيط به أركانها»، مشيرا إلى أنها «الوحيدة على الإطلاق التي لها الجمال الطبيعي، والمحاسن العزيزية التي ترغب الناس فيها وتجذبهم إليها على الرغم من كونها لم تتجمل بما تجملت به العواصم المغربية الآخر من بهرجة التحسين والإصلاح وزخرفة التنميق والتنسيق الحديث كأنها تعلم أن في حسنها الذاتي وجمالها الساحر ما يغنيها عن التجمل والتكحل، وليس التكحل كالكحل». 
 
ويتردد اسم «ماجوريل»، اليوم، مقرونا بحدائق ماجوريل، التي تحولت إلى أحد أهم معالم مراكش السياحية. وكان جاك ماجوريل، الذي ولد في مدينة نانسي الفرنسية عام 1886، قد حل بمراكش، لأول مرة، عام 1919، حيث وجد السحر اللازم والفضاء الملائم ليستقر وليواصل مهنته وهوايته كرسام، قبل أن يقتني، في عام 1924، قطعة أرض عمل على أن يجعل منها حديقة، أصبحت عنوانا ووجهة سياحية بالمدينة الحمراء.
 
ويلاحظ عند كل من استهوتهم مراكش، فتناولوها في إبداعاتهم، اشتراكهم في الانبهار بها عند أول زيارة لها. يقول هانس غيردتس، في «نقوش حجرية: علامات الإنسان»، متحدثا عن علاقته بالمدينة الحمراء وساحتها الشهيرة «جامع الفنا» بداية من 1963 «أذهلتني حشود مراكش بحيث أصبحت أرسم من دون أن أعي ما أفعل؛ ولم أكن أتحكم في ذاتي؛ مشدودا إلى إيقاع الموسيقى ومحاصرا بتنقلات الحشود، أرسم مشاهداتي. كانت الريشة تترك بصماتها على الورق من دون تدخل مني أنا الشاهد (...) سحرتني في مراكش جموع الناس وتشكلات الحشود. يشكل الناس في ساحة جامع الفنا دوائر حول شخص ما. الدائرة تشكل الحشد في المدينة المتعددة الأبواب. وأما الحشود الأخرى التي يمكن أن نجدها في نيويورك، مثلا، فهي تنتظم على شكل خط مستقيم (...) الحشد كتاب دوّن بأحرف بشرية؛ ثمة أقرباؤنا والأصدقاء، وهناك الأعداء والآباء. في الحشد عمال وموظفون، وفيه الملوك والفقراء، البيض بجانب السود. الجميع هنا سواسية؛ صورة الجسد مرآة لصورة الحرف».
 
أما أدونيس، فيدخل، في قصيدته «مراكش / فاس.. والفضاء ينسج التآويل»، إلى مراكش، في حاشية من توابع الشجر والعشب، فيما تحييه طلائع النخيل؛ مراكش، حيث الخريف جمر الربيع والربيع ماء الخريف، يكتب أدونيس، الذي سيسمع ما يشبه الكلام عن القمر الذي ينزل إلى المدينة ليزور أصدقاءه الفقراء.
 
في مراكش، يترك أدونيس لقصيدته أن تطرح أسئلتها: «وماذا يقول ماسح الأحذية لهذا القفطان المذهب؟ وماذا يوسوس / بائع اللبن لتلك الناطحة من الإسمنت؟ وما لهذه/ الأرصفة كأنها خيول أرهقت، تنكس البيارق؟». في مراكش، يضيف أدونيس، حين ترى إلى الشمس تغرب، يتجاذبها الأطلس والمتوسط.. في مراكش، تلبس القصيدة قفطانها، أما جامع الفنا فـ«كوْن مشحونٌ بكهرباء الذكرى»، و«نص يتناسل في نصوص».
 
أما سعدي يوسف فكتب أن أول مفاجأة حقيقية عاشها، حين هبطت به الطائرة في مطار مراكش المنارة، ذات زيارة للمدينة الحمراء، للمشاركة في ملتقى شعري، كانت حكايته مع شرطي مغربي: «سألني شرطيّ: (أأنت فلان؟). أجبتُ: نعم. قال: (أأنت الشاعر نفسه؟). أجبتُ: نعم.. وهكذا، بدأ بيننا حديثٌ ظريفٌ عن الشعر وأهله، وعن معارفَ مشترَكين». وعقب هذه الزيارة، سيكتب سعدي أن «ليل مراكش يبدأ بأغنية الطير والشجر وينتهي بأغنية الطير»، بعد أن كان كتب، في قصيدته «مجاز وسبعة أبواب»: «مرّاكشُ الحمراءُ تُبنى الآن / عالية / وعاصمة / فهل نحن الحجارة؟».

من جهته، يذكرنا إلياس كانيتي، في مؤلفه الجميل «أصوات مراكش»، بشكل خاص، بجامع الفنا، سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، من خلال رواتها «الرواة هم أكثر من يجلب الناس. حولهم حلقات من المستمعين الأكثر عددا والأشد وفاء. حكاياتهم تدوم وقتا طويلا. يقرفص المستمعون على الأرض مكونين حلقة أولى ولا يقفون بعد ذلك أبدا. يكونون حلقة ثانية وهم واقفون. وهم بالكاد يتحركون، منبهرين ومشدودين إلى كلمات الراوي وحركاته. والرواة عادة ما يتكونون من مجموعات ثنائية، كل واحد منهما يروي جزءا من الحكاية. كلماتهم تأتي من البعيد البعيد، ولوقت طويل تظل معلقة في الهواء أكثر من كلمات الناس العاديين (...) كنت أحس بالخوف في لحظات الخطر. كل شيء كان يدل على رباطة الجأش والحذق. والكلمات الأقوى كانت تطير إلى حيث يريد الراوي أن تتوجه. كان الهواء فوق المستمعين يضج بالحركة، وأنا، الذي لا يفهم إلا القليل، كنت أحس الحياة فوق رؤوس الحاضرين. كان الرواة، احتفاء بالكلمات، يرتدون ثيابا خاصة، تختلف عن ثياب مستمعيهم. يتخيرون أقمشة رفيعة. بعضهم يرتدون ثيابا من الساتان الأزرق، وآخرون ثيابا من الساتان البني. تلك الثياب تضفي عليهم نوعا من الأبهة، وتجعلهم شبيهين بشخصيات أسطورية، ونادرا ما تتركز نظراتهم على الناس الذين يحيطون بهم، غير أنها تبدو وكأنها مثبتة على أبطال وشخوص الحكاية».
 
كلود أوليي، كاتب آخر استهوته مراكش فغاص في تفاصيلها، بعد أن عمل بالمغرب في خمسينات القرن الماضي، ليعود إليه مرات كثيرة، بعد ذلك. وجاء «مراكش المدينة»، مؤلف أوليي، سفرا جميلا، يضعنا في قلب التاريخ القريب لمراكش، المدينة التي قال عنها إنها «بنيت بطريقة تكون معها المدة التي يستغرقها استجلاء خريطتها مطابقة تماما لمدة الطواف بها»، لنتبعه، عبر صفحات الكتاب، إلى أن يصل إلى عمق المدينة الحمراء، حيث «صومعة الكتبية، المنتصبة كسارية سفينة فوق البنايات مرصعة بدائرة ضوء، وبمسلط نور يغلف بضيائه السطوح والحدائق والسهل والصحراء أيضا. إنه الضوء الذي يعيد المترحل إلى مدينة، مدينة الرحل الذاهلين الشموخين الثملين بالحنين للكثبان. مدينة لها إيقاع واحة، فبعد الجولة الطويلة بين الأحجار والأشجار الواطئة، تستنير الدكاكين في لجة الغبار، وتنبجس دقات الطبول بعنفها فجأة في الليل الساخن لساحة جامع الفنا (...) كلهم هنا، ينبثقون فجأة لا ندري من أين، مسرحين الليل من عقاله (...) إنهم يتكلمون وينشدون، وخارج كل كتابة يتمتمون؛ إذ ثمة لعبة شفوية هنا، من وهاد إلى وهاد متجهة نحو المدينة، من فصل لآخر، فيما وراء الأودية، في شبكة الدروب الممتدة عبر الصخور وتقعرات الوديان الجافة.. من واد إلى واد حتى السهل المنبسط شمال المدينة، ومن حقل لآخر، بحيث يجري التذكر وحكي القصص التي تهتم بالنزاعات العائلية، وتبسط الزربية على الإسفلت الحارق، ومربع الحرير، وتحكى الخرافات. يقرفص الحاكي واضعا رجليه تحت فخذيه يدعو الأطفال إلى المكوث حتى ترتسم حلقة السامعين».
 
من جهته، ارتبط خوان غويتسولو بعلاقة خاصة بمراكش، وحافظ على عشقه لها، وهو عشق ترجمه بتطويع لسانه على الدارجة المغربية ومجالسة البسطاء والأصدقاء بمقهى «فرنسا» والسكن بحي «القنارية»، على بعد خطوات من ساحة جامع الفنا، حيث اعتاد أن يمشي بين الناس كشيخ وقور.
 
وكان غويتسولو أهدى مخطوط «مقبرة»، إحدى أهم رواياته، للمدينة الحمراء، وهي رواية استلهم عالمها من فضاء جامع الفنا، بإيقاعاته وأصواته ومتخيلاته، ومن الحرية التعبيرية لكل ما يتحرك في الساحة الشهيرة. وعد الإهداء تقديرا رمزيا من غويتسولو، لما يشكله المغرب، بشكل عام، ومدينة مراكش، بشكل خاص، في حياته وكتاباته، وتكريما لروح المكان وأهله، هو الذي سبق له أن قال إن مراكش صارت جزءا لا يتجزأ من حياته، بعد أن شكل انجذابه للمغرب ومعايشته اليومية لأمكنته وتنوعه الهائل، انعطافة أساسية في حياته ومساره الأدبي، الشيء الذي ساعده، في رأي البعض، على تجاوز الحدود القائمة بين الكتابة والتراث الشفوي، وبين الأفكار وتعبيرات الحواس الشائعة في الساحات والحواري، كما مكنه من تشكيل رؤية جديدة للإبداع ودوره في بناء الجسور بين الثقافات.
 
ويسجل لغويتسولو أنه كان في قلب وريادة مطالبة اليونيسكو بإدخال ساحة جامع الفنا إلى قائمة التراث الإنساني، وذلك لحمايتها من طيش مشاريع إدارية مفتقدة للخيال والحس الجمالي، ومن جشع المستثمرين. وبعد تعبئة عالمية، جند لها كتاب كبار، من أمثال كارلوس فوينتيس وخوسيه بالنتي، استجابت اليونيسكو، التي، اعترافا منها بجهود الكاتب الإسباني، منحته شرف كتابة نص إعلان اعتبار الساحة تحفة من التراث اللامادي الإنساني.
 

مراكش.. مدينة تزينها الروايات والقصائد
 
تحتاج حكاية الكتاب والفنانين العرب والغربيين مع مدن المغرب إلى مجلدات كاملة لرصدها. يستحيل أن نتحدث، اليوم، عن مدينة طنجة، مثلا من دون أن نلتفت إلى علاقتها بعدد من الكتاب العالميين المشهورين، أمثال ويليام بوروز وترومان كابوتي ومارك توين وتنيسي ويليامز وبول بولز وجان جينيه، حيث يذهب بعض المهتمين بالتاريخ المعاصر لـ«مدينة البوغاز»، إلى القول إن «طنجة مدينة صنعها الأدباء والميناء». 
 
كذلك الحال مع مدينة مراكش، حيث تحول عدد من الكتاب والفنانين إلى حراس للتراث المادي واللامادي لمدينة استهوت، على مدى تاريخها المعاصر، الكتاب، كما سحرت الفنانين، فأرخوا لمرورهم منها. 
مبدعون قدموا إليها من شتى بقاع العالم ومن مختلف مجالات الإبداع، لقدرتها على أن توفر لهم جوا مناسبا لتفجير المخيلة، وأن تحرض في داخلهم فرص الإبداع الراقي.

مبدعون عرب وغربيون، هاموا بها، فأعطوها من رحيق إبداعاتهم بقدر ما أعطتهم من سحرها ودفئها: من السوري أدونيس والعراقي سعدي يوسف، إلى الإسباني خوان غويتصولو والألماني هانس فيرنر غيردتس، وقبلهم الفرنسي جاك ماجوريل والألماني إلياس كانيتي والفرنسي كلود أوليي، من دون نسيان الحديث عن عشاق آخرين، اختاروا الإقامة والاستثمار الثقافي بها، أمثال الهولندي بيرت فلينت والأميركية باتي كود بي بيرش والسويسرية سوزانا بيدرمان إليوت والفرنسي إيف سان لوران.
 
في مراكش، تبدو حدائق ماجوريل، مثلا، أكثر من مجرد مساحة خضراء تستقطب سياحا من مختلف قارات العالم: إنها، قبل ذلك، تجسيد لفكرة مراكش المحتضنة لزوارها، بمختلف أجناسهم وطبقاتهم ودياناتهم وتوجهاتهم، الفكرية والاجتماعية والسياسية ؛مراكش التي سبق أن كتب عنها محمد بن عبد الله الموقت (1894 - 1949)، في كتاب «الرحلة المراكشية»: «إن أول مظهر من مظاهر جمال الطبيعة الذي يشاهده الوافد على هذه العاصمة المراكشية تلك الابتسامات الدائمة التي يراها مرسومة في ثغر كل منظر من مناظرها الخلابة وفي وجوه جميع سكانها وأهاليها بل في طلعة كل ما تضمه جدرانها، وتحيط به أركانها»، مشيرا إلى أنها «الوحيدة على الإطلاق التي لها الجمال الطبيعي، والمحاسن العزيزية التي ترغب الناس فيها وتجذبهم إليها على الرغم من كونها لم تتجمل بما تجملت به العواصم المغربية الآخر من بهرجة التحسين والإصلاح وزخرفة التنميق والتنسيق الحديث كأنها تعلم أن في حسنها الذاتي وجمالها الساحر ما يغنيها عن التجمل والتكحل، وليس التكحل كالكحل». 
 
ويتردد اسم «ماجوريل»، اليوم، مقرونا بحدائق ماجوريل، التي تحولت إلى أحد أهم معالم مراكش السياحية. وكان جاك ماجوريل، الذي ولد في مدينة نانسي الفرنسية عام 1886، قد حل بمراكش، لأول مرة، عام 1919، حيث وجد السحر اللازم والفضاء الملائم ليستقر وليواصل مهنته وهوايته كرسام، قبل أن يقتني، في عام 1924، قطعة أرض عمل على أن يجعل منها حديقة، أصبحت عنوانا ووجهة سياحية بالمدينة الحمراء.
 
ويلاحظ عند كل من استهوتهم مراكش، فتناولوها في إبداعاتهم، اشتراكهم في الانبهار بها عند أول زيارة لها. يقول هانس غيردتس، في «نقوش حجرية: علامات الإنسان»، متحدثا عن علاقته بالمدينة الحمراء وساحتها الشهيرة «جامع الفنا» بداية من 1963 «أذهلتني حشود مراكش بحيث أصبحت أرسم من دون أن أعي ما أفعل؛ ولم أكن أتحكم في ذاتي؛ مشدودا إلى إيقاع الموسيقى ومحاصرا بتنقلات الحشود، أرسم مشاهداتي. كانت الريشة تترك بصماتها على الورق من دون تدخل مني أنا الشاهد (...) سحرتني في مراكش جموع الناس وتشكلات الحشود. يشكل الناس في ساحة جامع الفنا دوائر حول شخص ما. الدائرة تشكل الحشد في المدينة المتعددة الأبواب. وأما الحشود الأخرى التي يمكن أن نجدها في نيويورك، مثلا، فهي تنتظم على شكل خط مستقيم (...) الحشد كتاب دوّن بأحرف بشرية؛ ثمة أقرباؤنا والأصدقاء، وهناك الأعداء والآباء. في الحشد عمال وموظفون، وفيه الملوك والفقراء، البيض بجانب السود. الجميع هنا سواسية؛ صورة الجسد مرآة لصورة الحرف».
 
أما أدونيس، فيدخل، في قصيدته «مراكش / فاس.. والفضاء ينسج التآويل»، إلى مراكش، في حاشية من توابع الشجر والعشب، فيما تحييه طلائع النخيل؛ مراكش، حيث الخريف جمر الربيع والربيع ماء الخريف، يكتب أدونيس، الذي سيسمع ما يشبه الكلام عن القمر الذي ينزل إلى المدينة ليزور أصدقاءه الفقراء.
 
في مراكش، يترك أدونيس لقصيدته أن تطرح أسئلتها: «وماذا يقول ماسح الأحذية لهذا القفطان المذهب؟ وماذا يوسوس / بائع اللبن لتلك الناطحة من الإسمنت؟ وما لهذه/ الأرصفة كأنها خيول أرهقت، تنكس البيارق؟». في مراكش، يضيف أدونيس، حين ترى إلى الشمس تغرب، يتجاذبها الأطلس والمتوسط.. في مراكش، تلبس القصيدة قفطانها، أما جامع الفنا فـ«كوْن مشحونٌ بكهرباء الذكرى»، و«نص يتناسل في نصوص».
 
أما سعدي يوسف فكتب أن أول مفاجأة حقيقية عاشها، حين هبطت به الطائرة في مطار مراكش المنارة، ذات زيارة للمدينة الحمراء، للمشاركة في ملتقى شعري، كانت حكايته مع شرطي مغربي: «سألني شرطيّ: (أأنت فلان؟). أجبتُ: نعم. قال: (أأنت الشاعر نفسه؟). أجبتُ: نعم.. وهكذا، بدأ بيننا حديثٌ ظريفٌ عن الشعر وأهله، وعن معارفَ مشترَكين». وعقب هذه الزيارة، سيكتب سعدي أن «ليل مراكش يبدأ بأغنية الطير والشجر وينتهي بأغنية الطير»، بعد أن كان كتب، في قصيدته «مجاز وسبعة أبواب»: «مرّاكشُ الحمراءُ تُبنى الآن / عالية / وعاصمة / فهل نحن الحجارة؟».

من جهته، يذكرنا إلياس كانيتي، في مؤلفه الجميل «أصوات مراكش»، بشكل خاص، بجامع الفنا، سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، من خلال رواتها «الرواة هم أكثر من يجلب الناس. حولهم حلقات من المستمعين الأكثر عددا والأشد وفاء. حكاياتهم تدوم وقتا طويلا. يقرفص المستمعون على الأرض مكونين حلقة أولى ولا يقفون بعد ذلك أبدا. يكونون حلقة ثانية وهم واقفون. وهم بالكاد يتحركون، منبهرين ومشدودين إلى كلمات الراوي وحركاته. والرواة عادة ما يتكونون من مجموعات ثنائية، كل واحد منهما يروي جزءا من الحكاية. كلماتهم تأتي من البعيد البعيد، ولوقت طويل تظل معلقة في الهواء أكثر من كلمات الناس العاديين (...) كنت أحس بالخوف في لحظات الخطر. كل شيء كان يدل على رباطة الجأش والحذق. والكلمات الأقوى كانت تطير إلى حيث يريد الراوي أن تتوجه. كان الهواء فوق المستمعين يضج بالحركة، وأنا، الذي لا يفهم إلا القليل، كنت أحس الحياة فوق رؤوس الحاضرين. كان الرواة، احتفاء بالكلمات، يرتدون ثيابا خاصة، تختلف عن ثياب مستمعيهم. يتخيرون أقمشة رفيعة. بعضهم يرتدون ثيابا من الساتان الأزرق، وآخرون ثيابا من الساتان البني. تلك الثياب تضفي عليهم نوعا من الأبهة، وتجعلهم شبيهين بشخصيات أسطورية، ونادرا ما تتركز نظراتهم على الناس الذين يحيطون بهم، غير أنها تبدو وكأنها مثبتة على أبطال وشخوص الحكاية».
 
كلود أوليي، كاتب آخر استهوته مراكش فغاص في تفاصيلها، بعد أن عمل بالمغرب في خمسينات القرن الماضي، ليعود إليه مرات كثيرة، بعد ذلك. وجاء «مراكش المدينة»، مؤلف أوليي، سفرا جميلا، يضعنا في قلب التاريخ القريب لمراكش، المدينة التي قال عنها إنها «بنيت بطريقة تكون معها المدة التي يستغرقها استجلاء خريطتها مطابقة تماما لمدة الطواف بها»، لنتبعه، عبر صفحات الكتاب، إلى أن يصل إلى عمق المدينة الحمراء، حيث «صومعة الكتبية، المنتصبة كسارية سفينة فوق البنايات مرصعة بدائرة ضوء، وبمسلط نور يغلف بضيائه السطوح والحدائق والسهل والصحراء أيضا. إنه الضوء الذي يعيد المترحل إلى مدينة، مدينة الرحل الذاهلين الشموخين الثملين بالحنين للكثبان. مدينة لها إيقاع واحة، فبعد الجولة الطويلة بين الأحجار والأشجار الواطئة، تستنير الدكاكين في لجة الغبار، وتنبجس دقات الطبول بعنفها فجأة في الليل الساخن لساحة جامع الفنا (...) كلهم هنا، ينبثقون فجأة لا ندري من أين، مسرحين الليل من عقاله (...) إنهم يتكلمون وينشدون، وخارج كل كتابة يتمتمون؛ إذ ثمة لعبة شفوية هنا، من وهاد إلى وهاد متجهة نحو المدينة، من فصل لآخر، فيما وراء الأودية، في شبكة الدروب الممتدة عبر الصخور وتقعرات الوديان الجافة.. من واد إلى واد حتى السهل المنبسط شمال المدينة، ومن حقل لآخر، بحيث يجري التذكر وحكي القصص التي تهتم بالنزاعات العائلية، وتبسط الزربية على الإسفلت الحارق، ومربع الحرير، وتحكى الخرافات. يقرفص الحاكي واضعا رجليه تحت فخذيه يدعو الأطفال إلى المكوث حتى ترتسم حلقة السامعين».
 
من جهته، ارتبط خوان غويتسولو بعلاقة خاصة بمراكش، وحافظ على عشقه لها، وهو عشق ترجمه بتطويع لسانه على الدارجة المغربية ومجالسة البسطاء والأصدقاء بمقهى «فرنسا» والسكن بحي «القنارية»، على بعد خطوات من ساحة جامع الفنا، حيث اعتاد أن يمشي بين الناس كشيخ وقور.
 
وكان غويتسولو أهدى مخطوط «مقبرة»، إحدى أهم رواياته، للمدينة الحمراء، وهي رواية استلهم عالمها من فضاء جامع الفنا، بإيقاعاته وأصواته ومتخيلاته، ومن الحرية التعبيرية لكل ما يتحرك في الساحة الشهيرة. وعد الإهداء تقديرا رمزيا من غويتسولو، لما يشكله المغرب، بشكل عام، ومدينة مراكش، بشكل خاص، في حياته وكتاباته، وتكريما لروح المكان وأهله، هو الذي سبق له أن قال إن مراكش صارت جزءا لا يتجزأ من حياته، بعد أن شكل انجذابه للمغرب ومعايشته اليومية لأمكنته وتنوعه الهائل، انعطافة أساسية في حياته ومساره الأدبي، الشيء الذي ساعده، في رأي البعض، على تجاوز الحدود القائمة بين الكتابة والتراث الشفوي، وبين الأفكار وتعبيرات الحواس الشائعة في الساحات والحواري، كما مكنه من تشكيل رؤية جديدة للإبداع ودوره في بناء الجسور بين الثقافات.
 
ويسجل لغويتسولو أنه كان في قلب وريادة مطالبة اليونيسكو بإدخال ساحة جامع الفنا إلى قائمة التراث الإنساني، وذلك لحمايتها من طيش مشاريع إدارية مفتقدة للخيال والحس الجمالي، ومن جشع المستثمرين. وبعد تعبئة عالمية، جند لها كتاب كبار، من أمثال كارلوس فوينتيس وخوسيه بالنتي، استجابت اليونيسكو، التي، اعترافا منها بجهود الكاتب الإسباني، منحته شرف كتابة نص إعلان اعتبار الساحة تحفة من التراث اللامادي الإنساني.
 


ملصقات


اقرأ أيضاً
يدير اكيندي يكتب عن مافيا الماستر: حين تتحول الجامعة من منارة للعلم إلى سوق نخاسة لبيع الذمم
يدير اكيندي الفساد يضرب قلب التعليم العالي… ومصداقية الوطن على المحك مرة أخرى، يَطفو على السطح وجه بشع من وجوه الفساد في بلادنا، بعد تفجر فضيحة الاتجار بالشواهد الجامعية، وبالضبط شهادات الماستر، في واحدة من مؤسسات التعليم العالي التي يُفترض فيها أن تُخرّج نخبة النخبة. والكارثة أن هذه الشهادات ليست مجرد أوراق، بل مفاتيح لولوج مراكز القرار، ومسالك البحث العلمي، ومواقع المسؤولية في القضاء والإدارة والتعليم والثقافة. فماذا يعني أن تُباع هذه المفاتيح لمن يملك الثمن؟ وماذا تبقّى من الوطن إذا تساوى الحاذق والغشاش، والعالم والمزوّر، في فرص الصعود؟ فكيف يمكن لمجتمع أن ينهض إذا كان التعليم، أساس بناء الإنسان، يُباع ويُشترى؟ وكيف نضمن مستقبلاً وطنياً إذا كانت المناصب العليا تُمنح لمن يدفع أكثر، لا لمن يستحق؟ما وقع في جامعة أكادير ليس حادثا معزولا، بل هو مؤشّر خطير على هشاشة منظومتنا القيمية، وعلى مدى تمدّد سرطان الغش والتدليس في جسد المجتمع. أن يصبح الغش “حقا مكتسبا” لدى بعض الفئات، فتلك بداية نهاية العقد الاجتماعي بين المواطنين والدولة. من غير المعقول أن تنحصر المساءلة في الأستاذ المتهم وحده، بل إن كل من استفاد، بشكل مباشر أو غير مباشر، من هذه “التجارة اللاشرعية”، يجب أن يُحاسب ويُتابع بتهمة التزوير في وثائق رسمية، والاحتيال على الدولة، والولوج إلى مواقع المسؤولية دون وجه حق ، مما يجعل الفساد التعليمي قنبلة موقوتة تهدد أمن المجتمع بأكمله هنا تبرز ضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة، فلا يكفي معاقبة الأستاذ المتورط في فضيحة أكادير، بل يجب استدعاء كل من استفاد من هذه “الصفقات” وملاحقته بتهمة التزوير والتدليس.. إننا لا ننسى الضحايا الحقيقيين لهذه الفضيحة: أبناء وبنات هذا الوطن، الذين أُقصوا لأنهم لم يملكوا 250 ألف درهم لشراء شهادة، وليس لأنهم يفتقرون للكفاءة أو الجدارة. كم من طاقة وطنية شريفة حُرمت من فرصتها، ودُفنت أحلامها، وانهزمت ثقتها في مؤسسات الدولة! وكم من شاب وشابة حُرموا من الماستر والدكتوراه، لا لضعف مستواهم العلمي، بل فقط لأنهم لا يملكون رصيدًا بنكيًا محترمًا! أليس هذا هو الوجه الحقيقي لانهيار القيم، وبداية تصدع الوطن؟ هذه الممارسات لا تدمر الأفراد فحسب، بل تقتل روح الانتماء لدى الشباب، وتجعلهم يفقدون الثقة في الوطن. وكما قال الكاتب البرازيلي باولو كويلو في روايته “الكيميائي”: “عندما تُحارب أحلامك، فإن الكون بأسره يتآمر لمساعدتك”، لكن ماذا لو كان الفساد هو من يحارب الأحلام؟ حينها لن يجد الشباب سوى اليأس أو الهجرة لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه الجريمة. فالوطن الذي نريده ليس مبنيًا على الريع والزبونية، بل على تكافؤ الفرص والاستحقاق. كما ورد في النموذج التنموي الجديد، الذي دعا إليه جلالة الملك محمد السادس، فإن بناء مغرب الغد يمر عبر بناء مجتمع قوي إلى جانب دولة قوية، مجتمع يؤمن بالعدل، والكرامة، والنزاهة، ويقاوم كل أشكال الغش والإفساد. فكيف تكون الدولة قوية إذا كان تعليمها ضعيفاً؟ وكيف يكون المجتمع قوياً إذا كان أفراده يعيشون على الوهم؟ ولعل ما قاله الكاتب البرازيلي باولو كويلو في رسالته إلى ابنه: “إن بناء الإنسان أصعب بكثير من بناء المدن، لكنه الأساس الحقيقي لأي حضارة”، ينطبق تمامًا على ما نحتاجه اليوم. فالتعليم هو حجر الزاوية لبناء الإنسان، والعبث به هو تقويض لكل إمكانيات النهوض. ألم يقل الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو: ” « وهل هناك عدل حين يحصل المزوّرون على مناصب ومسؤوليات، بينما يُقصى النجباء لأنهم لا يملكون المال؟ هل هناك دولة قانون، حين يتحول التعليم إلى مزاد علني؟ إننا أمام لحظة فارقة: إما أن تتحرّك النيابة العامة بصرامة، ويُفتح تحقيق شامل يُحاسب فيه كل من تواطأ أو استفاد أو سكت عن هذا الفساد، أو أن نترك هذا الورم الخبيث يتفشى في جسد الدولة والمجتمع، ويُعمق فقدان الثقة، ويقضي على كل أمل في الإصلاح. إننا ننتظر من وزارة التعليم العالي أن تنتصب كمطالب بالحق المدني في هذه القضية، وأن تُعلن حربا لا هوادة فيها على كل المتلاعبين بسمعة الجامعة المغربية. فالتعليم لا يجب أن يكون سلعة، ولا يجب أن يُترك للمفسدين ينشرون سمومهم بين الطلبة والأساتذة، ويهدمون ما تبقى من الأمل في غد نزيه وعادل. وحده العدل، وحدها المساواة، وحده القانون، يمكن أن يؤسسوا لوطن يسع الجميع. أما الاستسلام فليس خيارًا، والسكوت تواطؤ. فلننتفض، دفاعًا عن الكرامة، عن العدالة، عن مغرب يستحق أن نحلم به… لا أن نخجل منه. فضيحة شواهد الماستر ليست قضية أكاديمية عابرة، بل هي معركة وجودية ضد فسادٍ ينهش جسد الوطن. إن لم نتحرك اليوم، فسنواجه غداً جيلاً يعتقد أن الغش “إنجاز”، والتدليس “ذكاء”. الفساد الجامعي ليس مجرد جريمة أخلاقية، بل تهديد مباشر للأمن المجتمعي. عندما تتحول الجامعة إلى مصنع لشواهد مزورة، فإنها تنتج مسؤولين بلا كفاءة، وقضاة بلا ضمير، وأساتذة بلا علم. وحينها لا يمكن بناء مغرب الغد السكوت عن هذه الجريمة هو خيانة للأمل، وتواطؤ مع الفساد، ومساهمة في قتل طموحات شباب حُرموا من فرص حقيقية لأنهم لم يملكوا ما يكفي لشراء شهادة. إن ضحايا هذه المافيا معروفون: شباب اجتهدوا وكافحوا، لكنهم صُدوا لأنهم لم يكونوا جزءاً من لعبة النفوذ والرشوة * يدير اكيندي، أستاذ العلوم الاقتصادية والاجتماعية، خبير في التنمية الشاملة والإعاقة
ساحة

يونس مجاهد يكتب: حرية الصحافة المزعومة
يونس مجاهديشكل الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة، الذي يصادف الثالث من شهر ماي كل سنة، مناسبة أخرى للحديث عن القضايا المرتبطة بممارسة هذه الحرية، وخاصة التضييق الذي يمارس لمنعها أو الحد منها، غير أنه قلما تناقش أخلاقيات الصحافة، في علاقتها بالحرية، رغم أن هناك تكاملا بين المبدأين، يجعل من جودة الصحافة، رديفا للالتزام بأخلاقياتها، لأن الصحافة الرديئة ليست ممارسة للحرية، بل على العكس، إنها مجرد تضليل للجمهور ونشر لأخبار كاذبة، وتشهير وارتزاق وابتزاز... وهي بذلك لا تستجيب لتطلعات المجتمع، بل تؤثر سلبا على حرية الصحافة وادوارها الاجتماعية.وانطلاقا من هذا المنظور الذي يعتبر أن الوظيفة الاجتماعية هي الغاية الرئيسية للممارسة الصحافية، تطور استعمال المعيار الاجتماعي، لتصحيح الانحرافات التي تصيب هذه المهنة، فرغم اعتماد مواثيق الأخلاقيات وهيئات التنظيم الذاتي، في العديد من البلدان المتقدمة في المجال الديمقراطي، إلا أنها ظلت تلجأ باستمرار لمراجعات مختلفة، لعلاقة الصحافة بالمجتمع. وفيهذا الصدد يمكن العودة إلى ما حصل في الولايات المتحدة، سنة 1942، حين تم إحداث لجنة هاتشينز، من طرف جامعة شيكاغو، بطلب من مؤسس مجلة تايم، هنري لوس، التي عينت على رأسها روبرت ماينارد هاتشينز. اشتغلت هذه اللجنة لمدة خمس سنوات، ونشرت تقريرها تحت عنوان "صحافة حرة ومسؤولة". ومما ورد فيه، وجود تناقض بين المفهوم التقليدي لحرية الصحافة، وضرورة التحلي بالمسؤولية. فالمسؤولية واحترام القانون، ليس في حد ذاتهما تضييقاعلى حرية الصحافة، بل على العكس، يمكن أن يكونا تعبيرا أصيلا عن حرية إيجابية، لكنهما ضد حرية اللامبالاة. ويضيف التقرير؛ لقد أصبح من المعتاد اليوم أن تكون حرية الصحافة المزعومة، عبارة عن لا مسؤولية اجتماعية، لذا على الصحافة أن تعرف أن أخطاءها وأهواءها لم تعد ملكية خاصة لها، فهي تشكل خطرا على المجتمع، لأنها عندما تخطئ، فإنها تضلل الرأي العام، فنحن أمام تحدٍ؛ على الصحافة أن تظل نشاطا حرا وخاصا، لكن ليس لها الحق في أن تخطئ، لأنها تؤدي وظيفة مرفق عام. كان لهذا التقرير تأثير كبير في الحقل الصحافي، آنذاك، لأنه استعمل مفهوم المسؤولية الاجتماعية، واعتبر أن للصحافة وظائف أساسية، في تقديم معلومات وافية من خلال بحث وتدقيق، حول الأحداث اليومية، ضمن سياق واضح، وأن تكون منتدى للنقاش ولممارسة التعددية والحق في الاختلاف، وتنفتح على مختلف فئات المجتمع، بمساواة وإنصاف، وتتجنب الأفكار المسبقة والصور النمطية... ومن أشهر التقارير التي عرفتها، أيضا البلدان الديمقراطية، "تقرير ليفيسون"، الذي هو عبارة عن خلاصات تحقيق عام أجري في المملكة المتحدة بين عامي 2011 و2012، برئاسة القاضي براين ليفيسون، الذي كلفته الحكومة، بإنجاز افتحاص شامل حول ممارسة الصحافة ومدى التزامها بالأخلاقيات. ومن أهم توصياته؛ إنشاء هيئة جديدة مستقلة لتنظيم الصحافة، عبر تشريع قانوني، وتعزيز حماية الأفراد من انتهاكات الخصوصية ومن التشهير... وبناء على هذا التقرير تم اعتماد "ميثاق ملكي" للتنظيم الذاتي، صادق عليه البرلمان. ومازالت الأحزاب السياسية في هذا البلد تناقش الطرق المثلى الممكنة للتوصل إلى صيغة قانونية لتنفيذه، بالتوافق مع الناشرين. ويعتبر العديد من الباحثين في مجال الصحافة، أنه لا يمكن تصور الجودة في الصحافة، دون احترام أخلاقياتها، وحول هذا الموضوع، نظم منتدى الصحافة في الأرجنتين، ندوة دولية بمشاركة أكاديميين، صدرت في كتاب سنة 2007، تحت عنوان "صحافة الجودة: نقاشات وتحديات"، ناقش هذا الإشكال من مختلف جوانبه، وكانت خلاصته الرئيسية، أن الجودة والأخلاقيات وجهان لعملة واحدة. الجودة في البحث والتقصي وتدقيق المعلومات والتأكد من المعطيات، احترام الخصوصيات، الامتناع عن ممارسة السب والقذف، استعمال اللغة بشكل صحيح وراقٍ، تجنب الأخطاء اللغوية... ومن مصادر هذا الكتاب، البحث الذي نشرته الأستاذة الجامعية الإسبانية، المتخصصة في أخلاقيات الصحافة، صوريا كارلوس، تحت عنوان "الأمراض النفسية للأخلاقيات في المؤسسات الإخبارية"، حيث اعتبرت أن هناك أربعة أسباب تفرض الالتزام بأخلاقيات الصحافة؛ أولها، أن الأشخاص الذين يربحون قوت يومهم من خلال انتقاد الآخرين، تقع عليهم مسؤولية أن يكون تفكيرهم غير مثير للانتقاد، ثانيها، الاشتغال قليلا، بشكل رديء، بدون احترام القواعد والجودة المطلوبة، يشكل أول انتهاك للأخلاقيات، ثالثها، أن القانون وحده لا يكفي، فعلى المؤسسات أن تضع أنظمة داخلية لاحترام أخلاقيات الصحافة، رابعها، حتى تكون هناك مقاولات صحافية قوية وموحدة، عليها أن تتوفر على منظومة قيم، وثقافة أخلاقية مشتركة. إن كل حديث عن حرية الصحافة، دون استحضار شروط ممارستها، يظل مجرد شعارات فارغة، فبالإضافة إلى ضرورة العمل على توفير الإطار القانوني الذي يسمح بممارسة الحرية، فإن الأهم هو أن تلتزم الصحافة بالقواعد المهنية والمبادئ الأخلاقية، وتستند على منظومة القيم، المتعارف عليها عالميا في ميدان الصحافة، داخل إطار مؤسساتي قوي، وأنظمة داخلية يتم فيها تقاسم المسؤولية المشتركة، كل هذا لا يمكن أن يكون إلا في مقاولات صحافية مهيكلة بشكل محترف، تتوفر على إمكانات مادية وموارد بشرية، قادرة على تقديم منتوج يليق بمكانة الصحافة ويتجاوب مع متطلبات مسؤوليتها الاجتماعية.
ساحة

هرماس يسائل والي الجهة ووالي الامن.. هل أعلنتما انهزام السلطة أمام عربدة سائقي سيارات الأجرة؟
حسن هرماس السيدان الواليان المحترمان، كلما حللت بالمدينة الحمراء، التي امضيت فيها جزءا غير يسير من مساري المهني كصحافي، وارتبطت بها من الناحية الوجدانية والعائلية، إلا وشعرت بنوع من المرارة والأسى اتجاه بعض الممارسات المشينة التي تتغذى من مستنقع الفوضى والابتزاز، لدرجة أنني أصبحت أتخيل أن السلطات الأمنية والسلطات الولائية قدمتا معا استقالتها من ممارسة جزء من وظيفتها، وأعلنتا انهزامهما في مبارزة استأسد فيها "الخصم"، وما هو بخصم، وتجبر بلا حد ولا قيود. السيدان الواليان، أنا على يقين أنكما على بينة من العربدة والتجبر الذي عات بلا حدود في عدد من الأماكن المسموح فيها بتوقف سائقي سيارات الأجرة الصغيرة منها والكبيرة لنقل الركاب، مواطنين وسياحا، مغاربة وأجانب، نحو وجهاتهم، ومن ضمنها الساحة المحاذية لمحطة قطار مراكش، والساحة المواجهة لقنصلية فرنسا على مقربة من ساحة جامع لفنا...، ومبعث يقيني أنكما على علم بالأمر يستند إلى أن وظيفتكما الأساسية هي السهر على استتباب النظام والقانون، وتجسيد سلطة الدولة على أرض الواقع، وهذه المهمة الرهيبة، بمعناها الإيجابي، تستمدانها من الظهير الشريف ومن قرار تعيينكما في موقعي المسؤولية التي تتقلدانها.السيدان الواليان المحترمان، حللت بأرض البهجة ظهيرة يوم الإثنين 21 أبريل 2025، على متن رحلة قطار قادم الرباط، وأنا جد مزهو بنشوة اللقاءات التي جمعتني على مدى ثلاثة أيام مع الكتاب والإعلاميين والمثقفين في عاصمة المملكة بمناسبة الدورة الثلاثين للمعرض الدولي للنشر والكتاب... ولا أخفيكما الإحباط والانكسار اللذين أصبت بهما وأنا أغادر محطة القطار باحثا عن سيارة أجرة تقلني اتجاه حي تاركة، حتى خيل إلى أنني في مغربين اثنين: مغرب الرباط حيث يشعر الإنسان بالاحترام والطمأنينة والحق في الخدمة العمومية المؤدى عنها، ومغرب مراكش الذي استأسد فيه، دون حسيب ولا رقيب، طغمة من منعدمي الضمير وقليلي الأخلاق ومحترفي المساومة والابتزاز ، وهم جزء ـ وليس كل ـ من سائقي سيارات الأجرة، ومنافسيهم الممارسين للمهنة خارج القانون. فخلال ثلاثة أرباع الساعة، بقيت "مشوجر" ، ( بتعبير أهل المدينة)، قبالة طابور من سيارات الأجرة المتوقفة، وبين الفينة والأخرى يأتي سائق السيارة مصحوبا بسائح (ين) أجنبي، ولا أحد غير السياح الأجانب، في هيئة تشي بأنه حصل على غنيمة، بينما يبدو السائح(ين)، وكأنهم "يساقون إلى المقصلة وهم ينظرون". بعدما تبين لي أن لا حظ لي في العثور على سيارة أجرة صغيرة في الموقف المجاور لمحطة القطار، على الرغم من أن عددا من السيارات ما تزال متوقفة في غياب السائقين الذين يترصدون "الهموز" داخل محطة القطار، توجهت نحو الشارع الذي يشكل امتداد لشارع محمد السادس، لعل سيارة أجرة مارة في نفس الاتجاه الذي أقصده تتوقف ... لكن دون جدوى. بل بمجرد ما أشرت على سيارة الأجرة الأولى حتى باغثني شخص بالسؤال عن وجهتي، سألته من أنت، قال لي :"طالب معاشو، عندي طاموبيلتي تنهز لبلايص"...، وأضاف قائلا: "راك غير كتضيع وقتك، ما غادي توقف ليك حتى طاكسي فهاد البلاصة"،اضطررت لأخبره عن وجهتى وهي "تاركة"، لأنني صاحب حاجة، قال لي 40 درهم... أتعرفان بماذا أجبته، سيداي الواليان؟ قلت لمن ادعى أنه "طالب معاشو": " ما عند الميت ما يدير قدام غسالو"، ورضخت للابتزاز.على امتداد المسار الرابط بين محطة قطار مراكش وحي تاركة، والذي اعتدت أن أؤدي مقابله 17 درهما عند العودة، تراءت لي مجموعة من الوقائع المشينة التي تخدش محيى مدينة البهجة، ومن ضمنها واقعة السائح الأجنبي الإنجليزي الجنسية الذي سبق له ، قبل شهور معدودة، أن تعرض للنصب من طرف سائق سيارة أجرة صغيرة بعدما حل بمطار مراكش المنارة، وهي الحادثة التي وثقها بالصوت والصورة، وتتبعها ملايين المشاهدين عبر العالم في قناته على اليوتوب.وإذا كان هذا السائح الأجنبي قد جهر بهذه الطريقة الفاضحة بتعرضه للظلم في بلد اسمه المغرب، له تاريخ ولديه ترسانة كبيرة من القوانين، وهو ما حز في أنفس حشد كبير من المغاربة مما اضطر السلطات إلى اتخاذ إجراءات تنظيمية وردعية للحيلولة دون تكرار فضيحة أخرى في مطار المنارة، فإن ما يقع في محيط محطة قطار مراكش، وعلى مقربة من ساحة جامع لفنا بشكل يومي، بل في كل ساعة وحين، لا يقل خطورة عن الواقعة السالف ذكرها، وهذا ما ينذر ـ لا قدر الله ـ بما هو أخطر وأفظع ما لم تتحرك السلطات الأمنية وسلطات ولاية مراكش للقيام بواجبها في فرض هبة الدولة وسيادة القانون. فاللهم هل بلغت، اللهم فاشهد.    
ساحة

محمد بنطلحة الدكالي يكتب: الروح الرياضية بالجزائر…داء العطب قديم
أمام الانتصارات المتتالية للدبلوماسية المغربية والنكسات والهزائم لجيران السوء،يبدو أن دولة العالم الآخر باتت تعيش أعراض الهلوسة والخرف،وهو داء عطب قديم إسمه" المروك". من بين الذكريات التي يتغنى بها حفدة الشهداء،واقعة كروية حدثت وقائعها في9 دجنبر1979 بين المغرب والجزائر،انتهت بفوزهم كما هو معلوم...ومنذ ذلك الحين والأبواق الإعلامية تكتب عن هذا" النصر" العظيم الذي مضت عليه46 سنة. ولأن مرض الهلوسة تزداد تهيؤاته بازدياد حدته،يبدو أن الكراغلة باتوا منذ الآن يترقبون مقابلة شباب قسنطينة أمام نهضة بركان المغربي. تطالعنا اليوم جريدة الشروق بمقال يحمل عنوان:" الرئيس تبون يحرص على مرافقة السياسي ودعمه في مواجهته ضد نهضة بركان المغربي"...! لقد أكد المقال أن زعيم الكراغلة سيتكفل بكامل مصاريف تنقل وإقامة ممثل الكرة الجزائرية في المغرب،علما أن وزير الشباب والرياضة،وليد صادي،وخلال حضوره مأدبة العشاء التي أقامها والي الولاية صيودة،كان قد نقل للنادي القسنطيني إدارة ولاعبين دعم رئيس الجمهورية ومساندته المطلقة للفريق في مواجهته أمام نهضة بركان...ومن ثمة ضمان تنشيط النهائي الإفريقي القادم ودخول التاريخ من بابه الواسع...! سبحان الله معشر الكراغلة،دخول التاريخ،شافاكم الله،يكون عبر الاختراعات والإنجازات،وتوفير لتر حليب وكسرة خبز لكل جائع،وذلك أضعف الإيمان. دخول التاريخ يكون عبر التلاحم والتآزر،لأننا دم واحد وتاريخ مشترك. أما وأنتم تشحنون المدرب خير الدين ماضوي وكأنه متوجه إلى ساحة الحرب،وتأمرون اللاعبين بوقرة ومداحي وكأنهما قائدا فريق مشاة...! إسمحوا لي أن أعترف،أني بت أشفق عليكم،وأدعو الله أن يتدبر أمر الحرارة المفرطةالتي تسكنكم. ونحن ندعو لكم بالشفاء معشر الكراغلة،نذكركم أنه وطوال التاريخ،ومنذ الحضارة الإغريقية التي عرفت ألعاب أثينا،ظلت الرياضة عنوانا للفرجة والتآخي والتعارف بين الشعوب لما تمثله من قيم إنسانية نبيلة،إنها تنشر السلام وتشجع على التسامح والاحترام وسمو الأخلاق،والرياضة بمعناها الصحيح ترفض أن تكون وسيلة لغاية أخرى لأنها منبع القيم السامية المثلى حين تنتصر الروح الرياضية. إننا نشفق عليكم،ونرثي لحالكم حين تعتبرون انتصارا صغيرا في كرة القدم عن طريق ضربات الحظ،عيدا وطنيا وملحمة بطولية،محاولين تهدئة الشارع الذي يعرف حراكا شعبيا. لقد ضاق الشعب الجزائري الشقيق درعا من ضيق العيش ومحنة الطوابير والرعب اليومي الجاثم على النفوس... الرياضة أخلاق وسمو إنساني نبيل...حاولوا أن تستفيقوا من غيكم،رغم أن داء العطب قديم... محمد بنطلحة الدكالي
ساحة

التعليقات مغلقة لهذا المنشور

الطقس

°
°

أوقات الصلاة

الجمعة 04 يوليو 2025
الصبح
الظهر
العصر
المغرب
العشاء

صيدليات الحراسة