رشيد نيني يكتب: الجائعون الرائعون – Kech24: Morocco News – كِشـ24 : جريدة إلكترونية مغربية
الاثنين 21 أبريل 2025, 13:31

ساحة

رشيد نيني يكتب: الجائعون الرائعون


كشـ24 نشر في: 10 يوليو 2016


في كل مرة يطلب الشعب من رئيس الحكومة الوفاء بتعهداته وتطبيق الإصلاحات التي وعد بها وإلقاء القبض على المفسدين وإيداعهم السجن يشهر في وجهه ورقة الإصلاح في ظل الاستقرار، مذكرا بأن حزبه أنقذ المغرب من الفوضى.

واليوم لم يعد رئيس الحكومة وحده من يمن على المغاربة بأنه أنقذهم من الحرب الأهلية والفوضى، بل انضم إليه مزوار وزير الخارجية والأمين العام لحزب التجمع الوطني للأحرار، والذي قال في اجتماع المجلس الوطني لحزبه بطنجة إن التجمع أنقذ البلاد عندما قبل بدخول النسخة الثانية من حكومة بنكيران.

هكذا فمع كل يوم جديد سيخرج زعيم حزب لكي يمن على المغاربة ويذكرهم بأنه لولاه لكانوا اليوم يتقاتلون في ما بينهم كما يحدث في سوريا وكما حدث في مصر وليبيا وغيرها من دول الربيع العربي. مع أن الجميع يعرف أن بنكيران لم ينقذ أحدا آخر غير نفسه من البطالة السياسية وإخوانه من البطالة المهنية، بحيث أصبح أغلبهم يسكن الفلل بعدما كانوا يقطنون في شقق السكن الاقتصادي. أما مزوار فيعرف أكثر من غيره أنه لم ينقذ البلاد بدخوله إلى الحكومة وإنما أنقذ نفسه من المتابعة القضائية بسبب قضية العلاوات الشهيرة، وعوض أن يدخل مقر الفرقة الوطنية دخل مقر الحكومة. فهؤلاء السياسيون الذين صوتت لهم حفنة من الناخبين لا تكاد تمثل شيئا ضمن الكتلة الناخبة، يعتقدون أنه بدون طلعتهم البهية ستقوم القيامة في المغرب وسيأكل المغاربة بعضهم البعض. كم هم واهمون هؤلاء السياسيون المنافقون والمداهنون والأغبياء. فهم يطلبون من المغاربة أن يكونوا مواطنين صالحين، وهم عندما يطلبون منهم ذلك فإنما يقصدون أن يكونوا مواطنين صالحين لمصالحهم. يطلبون منهم أن يكونوا معدمين وصالحين. أن يدخلوا أيديهم في جيوبهم فلا يعثروا سوى على فواتير الماء والكهرباء ولائحة بأسماء الدائنين الذين يطلبونهم أحياء أو أمواتا. يطلبون منهم أن يكونوا مظلومين وعقلاء في الوقت نفسه، حتى لا يضيفوا إلى لائحة اتهاماتهم جنحة الرجولة. يطلبون منهم أن يتوجعوا لكن بصمت. يطلبون منهم أن يكونوا حزينين بملامح مسرورة للغاية، وأن يكونوا مفجوعين بشكل حضاري، حتى إذا صرخوا من شدة الألم أشعلوا الأمل والحبور في نفوس المفجوعين من أمثالهم. يطلبون منهم أن يذهبوا إلى النوم ببال مرتاح وأفكار مرتبة كملفات السكرتيرات، حتى ولو كانوا مبعثرين عن آخرهم ولا تهتدي يدهم إلى جيوبهم إلا بمشقة بالغة. يطلبون منهم أن يكونوا أمناء وألا يخلطوا جيوب الناس بجيوبهم، وأن يوقظوا ضمائرهم إذا اختلطت عليهم الجيوب، وأن ينوموها كلما دس أحدهم يده في جيوبهم. إنهم يطلبون منهم أن يكونوا تعساء وودودين، أن يبحثوا في أعماقهم فلا يجدوا سوى الغضب وأن يعرفوا كيف يصرفوا هذا الغضب بلا حمرة في العينين ولا حدة في الأنفاس ولا عض على الأسنان. يطلبون منهم أن يمضغوا طعامهم بفم مغلق حتى لا تتعود أنيابهم على الظهور أكثر من اللازم، فهم يخافون أنياب الجياع البارزة ويخشون ألا تجد ما تطحن يوما فيشهرونها في وجوههم السمينة مثل سكاكين اللصوص في المنعطفات الحادة. إنهم يطلبون منهم أن يناموا بلا أحلام، وإذا حلموا أن يحكوا عنها في الغد بشكل خاص جدا حتى لا تثير الشبهات حول النيام الآخرين الذين لا يحلمون بالليل ويؤجلون أحلامهم إلى النهار لكي يروها وهي تتحقق أمامهم في ضوء النهار. إنهم يطلبون منهم أن يكونوا عميانا رغم أن عيونهم أوسع من النوافذ، وأن تنعدم الرؤية أمامهم كلما مر أحدهم هاربا بقسطه من الكعكة التي أعدها الشعب، وألا تفتحوا عيونهم إلا عندما يحين دورهم التاريخي في جمع الفتات، الذي هو نصيبهم النضالي جزاء بصيرتهم المتفانية في العماء. إنهم يطلبون منهم أن يعيشوا سعداء وبسيطين، أن يفترشوا أوراق الجرائد وأن يلتهموا العناوين العريضة والمواضيع الدسمة في نشرات الأخبار. أن يقطنوا أحذيتهم وأن يرتدوا الثياب المستعملة وأن يضحكوا بانتظام على الأقل مرتين في اليوم، وأن يحزنوا بكميات معقولة حتى لا يصابوا بتضخم في القلب، فيزاحمونهم أسرتهم النظيفة في المستشفيات. إنهم يريدون منهم أن يبكوا بين حين وآخر، لذلك يسلطون عليهم كل تلك المسلسلات والبرامج الرديئة والمنشطين الثخينين في التلفزيون. إنهم يطلبون منهم أن يفكروا دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النزول إلى العمق، وأن يظلوا بالمقابل فوق السطح معرضين ضمائرهم المستترة لتيارات الهواء الباردة. إنهم يطلبون منهم أن يتفانوا في أداء الواجب الوطني وأن يقنعوا بالحد الأدنى للأجور وأتفه المسؤوليات، وأن يحرقوا أعصابهم يوميا في كتابة التقارير التي لن يطالعها أحد، وأن ينشفوا دماغهم في إحصاء الأموال التي لا تعرف البنوك التي ستسمن فيها، وأن يكون كل نصيبهم من هذه المحنة أقل بكثير من نصيب أولئك الموظفين الكبار الذين كل بطولاتهم أنهم يضعون توقيعاتهم الرديئة بأقلام حبرهم الضخمة وينصرفون لأخذ أتعابهم الأكثر ضخامة من سيغارهم الكوبي. يطلبون منهم أن يكونوا متذمرين، لكن بقسمات مبتهجة. أن ترقد أمهاتهم في السرير بلا علاج وأن يفرحوا لمجرد أن الأمطار نزلت بكثرة هذا الموسم. أن يجدوا إشعارا بضريبة ثقيلة تحت الباب عوض أن يجدوا رسالة صديق، وأن تبقى لديهم مع ذلك الرغبة في قراءة كتاب قبل النوم أو الجلوس قرب سرير الصغار وإسماعهم مرة أخرى حكاية ذلك الوحش الذي التهم بمفرده وطنا رائعا ثم مات وحيدا بسبب التخمة. يطلبون منهم أن يناموا باكرا ويصحوا باكرا لأن هذا من صفات المواطن الصالح، وهم لا يعرفون أن النوم في هذه الأيام أصبح يتطلب أدوية كثيرة واحتياطات أكثر بسبب كل الكوابيس المرعبة التي أصبحت تتسكع في أحلام الفقراء مثل القطط الضالة. إنهم يطلبون منهم أن يكفوا عن إزعاجهم بمشاريعهم الطموحة وأفكارهم النيرة، أن يقتنعوا بأن الحرية امرأة مطلقة تنام مع الغرباء، وأن الكرامة ليست سوى ضربة حذاء ثقيل مغلفة بقفاز أبيض، وأن الشجاعة ليست سوى صورة صفراء لفارس ملثم يطعن غولا كانت معلقة على جدران مدارسنا الابتدائية. إنهم يطلبون منهم أن يمنحوهم كل وقتهم وكل إعجابهم وكل مشاعرهم، لأنهم يحتاجونها جميعها ليقنعوا أنفسهم بجدوى العطور الثمينة التي يشترونها من عواصم العالم، وبجدوى تسريحات شعور زوجاتهم الناعمة وبجمالية جلستهم المتراخية على كراسيهم الوثيرة. إنهم يطلبون منهم ألا يكونوا مبالغين وهم يحكون عن تعاساتهم، أن يستعملوا الكلمات التي تليق بالنعيم الذي يرتعون فيه وأن يعرفوا حدود مياههم الإقليمية جيدا. أن يسحبوا شكواهم عندما لا يكون هناك استعداد من طرف سعادتهم لسماعها، وأن يبسطوا امتنانهم البالغ لقبولهم استقبال مواطن حقير ووضيع مثلك. وفي الأخير ينصحونهم بأن يعتمدوا على مواهبهم وأن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم، رغم أنهم لم يتسببوا قط في خلق أي مشكل، والحل الوحيد الذي يقترحون عليهم هو أن يدفعوا أيام حياتهم بالتقسيط المريح حتى يسددوا الأخطاء التي ارتكبها غيرهم. إنهم يطلبون منهم أن يتعلموا كيف يتخابثون في كلامهم كما يتخابثون هم، وأن يضعوا بين كل كلمة وأخرى عبارة شكر وامتنان. إنهم يطلبون منهم أن يكونوا حريصين على حياتهم وأن يفكروا في المستقبل بجدية، وينصحونهم بأن يكونوا رومانسيين وأن تلتقي نظراتهم بنظرات فتاة في القطار فيسقطا في حب بعضهما البعض على الفور ويتزوجا كما يحدث في المسلسلات المكسيكية الرديئة التي يقدمونها لهم يوميا على مائدة الغداء. هكذا يصبحون مواطنين صالحين وتصير لهم زوجة وأبناء وواجبات وديون وفواتير لا تحصى وحسابات عند المحلات التجارية والصيدليات، وحسابات أخرى عويصة مع الجيران. إنهم يطلبون منهم أن يؤلفوا عائلة صغيرة وكتبا في أوقات الفراغ، أن يذهبوا كأي أغبياء مسرورين إلى العروض السينمائية التي تبتز جيوب الناس، وعندما يريدون أن يسافروا يذهبون ليقفوا في الصف للحصول على قرض سوف يسددونه طيلة حياتهم التعيسة. إنهم يطلبون منهم أن يصبح لهم سطح يعيشون فوقه وعتبة للفقر يعيشون تحتها. أن ينجبوا أطفالا ويتزاحموا أمام أبواب المحلات التجارية ليشتروا لهم الحليب الاصطناعي، لأن أمهاتهم سيرفضن إعطاءهم أثداءهن انسجاما مع تعاليم الحركة النسائية العالمية. إنهم يطلبون منهم أن يكدوا طوال حياتهم مثل بغال جبارة وعندما يصلون سن التقاعد يصرفون لهم مرتبا لا يكفي لإعالة كلب واحد من كلابهم الأنيقة. إنهم يطلبون منهم أكثر ما يمكن من الهدوء في الأعصاب، وأقل ما يمكن من الغضب في النظرة، وتقريبا لا شيء من الكرامة. إنهم يطلبون منهم أن يكونوا جائعين ورائعين، عراة وشرفاء، وحيدين وأليفين. يطلبون منهم أن يكونوا مضروبين وغير ناقمين، مهشمين وكل جوارحهم تصفق لهم ولسياستهم الرشيدة. إنهم يطلبون منهم المستحيل، إنهم ببساطة يطلبون رأسك لا غير.


في كل مرة يطلب الشعب من رئيس الحكومة الوفاء بتعهداته وتطبيق الإصلاحات التي وعد بها وإلقاء القبض على المفسدين وإيداعهم السجن يشهر في وجهه ورقة الإصلاح في ظل الاستقرار، مذكرا بأن حزبه أنقذ المغرب من الفوضى.

واليوم لم يعد رئيس الحكومة وحده من يمن على المغاربة بأنه أنقذهم من الحرب الأهلية والفوضى، بل انضم إليه مزوار وزير الخارجية والأمين العام لحزب التجمع الوطني للأحرار، والذي قال في اجتماع المجلس الوطني لحزبه بطنجة إن التجمع أنقذ البلاد عندما قبل بدخول النسخة الثانية من حكومة بنكيران.

هكذا فمع كل يوم جديد سيخرج زعيم حزب لكي يمن على المغاربة ويذكرهم بأنه لولاه لكانوا اليوم يتقاتلون في ما بينهم كما يحدث في سوريا وكما حدث في مصر وليبيا وغيرها من دول الربيع العربي. مع أن الجميع يعرف أن بنكيران لم ينقذ أحدا آخر غير نفسه من البطالة السياسية وإخوانه من البطالة المهنية، بحيث أصبح أغلبهم يسكن الفلل بعدما كانوا يقطنون في شقق السكن الاقتصادي. أما مزوار فيعرف أكثر من غيره أنه لم ينقذ البلاد بدخوله إلى الحكومة وإنما أنقذ نفسه من المتابعة القضائية بسبب قضية العلاوات الشهيرة، وعوض أن يدخل مقر الفرقة الوطنية دخل مقر الحكومة. فهؤلاء السياسيون الذين صوتت لهم حفنة من الناخبين لا تكاد تمثل شيئا ضمن الكتلة الناخبة، يعتقدون أنه بدون طلعتهم البهية ستقوم القيامة في المغرب وسيأكل المغاربة بعضهم البعض. كم هم واهمون هؤلاء السياسيون المنافقون والمداهنون والأغبياء. فهم يطلبون من المغاربة أن يكونوا مواطنين صالحين، وهم عندما يطلبون منهم ذلك فإنما يقصدون أن يكونوا مواطنين صالحين لمصالحهم. يطلبون منهم أن يكونوا معدمين وصالحين. أن يدخلوا أيديهم في جيوبهم فلا يعثروا سوى على فواتير الماء والكهرباء ولائحة بأسماء الدائنين الذين يطلبونهم أحياء أو أمواتا. يطلبون منهم أن يكونوا مظلومين وعقلاء في الوقت نفسه، حتى لا يضيفوا إلى لائحة اتهاماتهم جنحة الرجولة. يطلبون منهم أن يتوجعوا لكن بصمت. يطلبون منهم أن يكونوا حزينين بملامح مسرورة للغاية، وأن يكونوا مفجوعين بشكل حضاري، حتى إذا صرخوا من شدة الألم أشعلوا الأمل والحبور في نفوس المفجوعين من أمثالهم. يطلبون منهم أن يذهبوا إلى النوم ببال مرتاح وأفكار مرتبة كملفات السكرتيرات، حتى ولو كانوا مبعثرين عن آخرهم ولا تهتدي يدهم إلى جيوبهم إلا بمشقة بالغة. يطلبون منهم أن يكونوا أمناء وألا يخلطوا جيوب الناس بجيوبهم، وأن يوقظوا ضمائرهم إذا اختلطت عليهم الجيوب، وأن ينوموها كلما دس أحدهم يده في جيوبهم. إنهم يطلبون منهم أن يكونوا تعساء وودودين، أن يبحثوا في أعماقهم فلا يجدوا سوى الغضب وأن يعرفوا كيف يصرفوا هذا الغضب بلا حمرة في العينين ولا حدة في الأنفاس ولا عض على الأسنان. يطلبون منهم أن يمضغوا طعامهم بفم مغلق حتى لا تتعود أنيابهم على الظهور أكثر من اللازم، فهم يخافون أنياب الجياع البارزة ويخشون ألا تجد ما تطحن يوما فيشهرونها في وجوههم السمينة مثل سكاكين اللصوص في المنعطفات الحادة. إنهم يطلبون منهم أن يناموا بلا أحلام، وإذا حلموا أن يحكوا عنها في الغد بشكل خاص جدا حتى لا تثير الشبهات حول النيام الآخرين الذين لا يحلمون بالليل ويؤجلون أحلامهم إلى النهار لكي يروها وهي تتحقق أمامهم في ضوء النهار. إنهم يطلبون منهم أن يكونوا عميانا رغم أن عيونهم أوسع من النوافذ، وأن تنعدم الرؤية أمامهم كلما مر أحدهم هاربا بقسطه من الكعكة التي أعدها الشعب، وألا تفتحوا عيونهم إلا عندما يحين دورهم التاريخي في جمع الفتات، الذي هو نصيبهم النضالي جزاء بصيرتهم المتفانية في العماء. إنهم يطلبون منهم أن يعيشوا سعداء وبسيطين، أن يفترشوا أوراق الجرائد وأن يلتهموا العناوين العريضة والمواضيع الدسمة في نشرات الأخبار. أن يقطنوا أحذيتهم وأن يرتدوا الثياب المستعملة وأن يضحكوا بانتظام على الأقل مرتين في اليوم، وأن يحزنوا بكميات معقولة حتى لا يصابوا بتضخم في القلب، فيزاحمونهم أسرتهم النظيفة في المستشفيات. إنهم يريدون منهم أن يبكوا بين حين وآخر، لذلك يسلطون عليهم كل تلك المسلسلات والبرامج الرديئة والمنشطين الثخينين في التلفزيون. إنهم يطلبون منهم أن يفكروا دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النزول إلى العمق، وأن يظلوا بالمقابل فوق السطح معرضين ضمائرهم المستترة لتيارات الهواء الباردة. إنهم يطلبون منهم أن يتفانوا في أداء الواجب الوطني وأن يقنعوا بالحد الأدنى للأجور وأتفه المسؤوليات، وأن يحرقوا أعصابهم يوميا في كتابة التقارير التي لن يطالعها أحد، وأن ينشفوا دماغهم في إحصاء الأموال التي لا تعرف البنوك التي ستسمن فيها، وأن يكون كل نصيبهم من هذه المحنة أقل بكثير من نصيب أولئك الموظفين الكبار الذين كل بطولاتهم أنهم يضعون توقيعاتهم الرديئة بأقلام حبرهم الضخمة وينصرفون لأخذ أتعابهم الأكثر ضخامة من سيغارهم الكوبي. يطلبون منهم أن يكونوا متذمرين، لكن بقسمات مبتهجة. أن ترقد أمهاتهم في السرير بلا علاج وأن يفرحوا لمجرد أن الأمطار نزلت بكثرة هذا الموسم. أن يجدوا إشعارا بضريبة ثقيلة تحت الباب عوض أن يجدوا رسالة صديق، وأن تبقى لديهم مع ذلك الرغبة في قراءة كتاب قبل النوم أو الجلوس قرب سرير الصغار وإسماعهم مرة أخرى حكاية ذلك الوحش الذي التهم بمفرده وطنا رائعا ثم مات وحيدا بسبب التخمة. يطلبون منهم أن يناموا باكرا ويصحوا باكرا لأن هذا من صفات المواطن الصالح، وهم لا يعرفون أن النوم في هذه الأيام أصبح يتطلب أدوية كثيرة واحتياطات أكثر بسبب كل الكوابيس المرعبة التي أصبحت تتسكع في أحلام الفقراء مثل القطط الضالة. إنهم يطلبون منهم أن يكفوا عن إزعاجهم بمشاريعهم الطموحة وأفكارهم النيرة، أن يقتنعوا بأن الحرية امرأة مطلقة تنام مع الغرباء، وأن الكرامة ليست سوى ضربة حذاء ثقيل مغلفة بقفاز أبيض، وأن الشجاعة ليست سوى صورة صفراء لفارس ملثم يطعن غولا كانت معلقة على جدران مدارسنا الابتدائية. إنهم يطلبون منهم أن يمنحوهم كل وقتهم وكل إعجابهم وكل مشاعرهم، لأنهم يحتاجونها جميعها ليقنعوا أنفسهم بجدوى العطور الثمينة التي يشترونها من عواصم العالم، وبجدوى تسريحات شعور زوجاتهم الناعمة وبجمالية جلستهم المتراخية على كراسيهم الوثيرة. إنهم يطلبون منهم ألا يكونوا مبالغين وهم يحكون عن تعاساتهم، أن يستعملوا الكلمات التي تليق بالنعيم الذي يرتعون فيه وأن يعرفوا حدود مياههم الإقليمية جيدا. أن يسحبوا شكواهم عندما لا يكون هناك استعداد من طرف سعادتهم لسماعها، وأن يبسطوا امتنانهم البالغ لقبولهم استقبال مواطن حقير ووضيع مثلك. وفي الأخير ينصحونهم بأن يعتمدوا على مواهبهم وأن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم، رغم أنهم لم يتسببوا قط في خلق أي مشكل، والحل الوحيد الذي يقترحون عليهم هو أن يدفعوا أيام حياتهم بالتقسيط المريح حتى يسددوا الأخطاء التي ارتكبها غيرهم. إنهم يطلبون منهم أن يتعلموا كيف يتخابثون في كلامهم كما يتخابثون هم، وأن يضعوا بين كل كلمة وأخرى عبارة شكر وامتنان. إنهم يطلبون منهم أن يكونوا حريصين على حياتهم وأن يفكروا في المستقبل بجدية، وينصحونهم بأن يكونوا رومانسيين وأن تلتقي نظراتهم بنظرات فتاة في القطار فيسقطا في حب بعضهما البعض على الفور ويتزوجا كما يحدث في المسلسلات المكسيكية الرديئة التي يقدمونها لهم يوميا على مائدة الغداء. هكذا يصبحون مواطنين صالحين وتصير لهم زوجة وأبناء وواجبات وديون وفواتير لا تحصى وحسابات عند المحلات التجارية والصيدليات، وحسابات أخرى عويصة مع الجيران. إنهم يطلبون منهم أن يؤلفوا عائلة صغيرة وكتبا في أوقات الفراغ، أن يذهبوا كأي أغبياء مسرورين إلى العروض السينمائية التي تبتز جيوب الناس، وعندما يريدون أن يسافروا يذهبون ليقفوا في الصف للحصول على قرض سوف يسددونه طيلة حياتهم التعيسة. إنهم يطلبون منهم أن يصبح لهم سطح يعيشون فوقه وعتبة للفقر يعيشون تحتها. أن ينجبوا أطفالا ويتزاحموا أمام أبواب المحلات التجارية ليشتروا لهم الحليب الاصطناعي، لأن أمهاتهم سيرفضن إعطاءهم أثداءهن انسجاما مع تعاليم الحركة النسائية العالمية. إنهم يطلبون منهم أن يكدوا طوال حياتهم مثل بغال جبارة وعندما يصلون سن التقاعد يصرفون لهم مرتبا لا يكفي لإعالة كلب واحد من كلابهم الأنيقة. إنهم يطلبون منهم أكثر ما يمكن من الهدوء في الأعصاب، وأقل ما يمكن من الغضب في النظرة، وتقريبا لا شيء من الكرامة. إنهم يطلبون منهم أن يكونوا جائعين ورائعين، عراة وشرفاء، وحيدين وأليفين. يطلبون منهم أن يكونوا مضروبين وغير ناقمين، مهشمين وكل جوارحهم تصفق لهم ولسياستهم الرشيدة. إنهم يطلبون منهم المستحيل، إنهم ببساطة يطلبون رأسك لا غير.


ملصقات


اقرأ أيضاً
محمد بنطلحة الدكالي يكتب: الروح الرياضية بالجزائر…داء العطب قديم
أمام الانتصارات المتتالية للدبلوماسية المغربية والنكسات والهزائم لجيران السوء،يبدو أن دولة العالم الآخر باتت تعيش أعراض الهلوسة والخرف،وهو داء عطب قديم إسمه" المروك". من بين الذكريات التي يتغنى بها حفدة الشهداء،واقعة كروية حدثت وقائعها في9 دجنبر1979 بين المغرب والجزائر،انتهت بفوزهم كما هو معلوم...ومنذ ذلك الحين والأبواق الإعلامية تكتب عن هذا" النصر" العظيم الذي مضت عليه46 سنة. ولأن مرض الهلوسة تزداد تهيؤاته بازدياد حدته،يبدو أن الكراغلة باتوا منذ الآن يترقبون مقابلة شباب قسنطينة أمام نهضة بركان المغربي. تطالعنا اليوم جريدة الشروق بمقال يحمل عنوان:" الرئيس تبون يحرص على مرافقة السياسي ودعمه في مواجهته ضد نهضة بركان المغربي"...! لقد أكد المقال أن زعيم الكراغلة سيتكفل بكامل مصاريف تنقل وإقامة ممثل الكرة الجزائرية في المغرب،علما أن وزير الشباب والرياضة،وليد صادي،وخلال حضوره مأدبة العشاء التي أقامها والي الولاية صيودة،كان قد نقل للنادي القسنطيني إدارة ولاعبين دعم رئيس الجمهورية ومساندته المطلقة للفريق في مواجهته أمام نهضة بركان...ومن ثمة ضمان تنشيط النهائي الإفريقي القادم ودخول التاريخ من بابه الواسع...! سبحان الله معشر الكراغلة،دخول التاريخ،شافاكم الله،يكون عبر الاختراعات والإنجازات،وتوفير لتر حليب وكسرة خبز لكل جائع،وذلك أضعف الإيمان. دخول التاريخ يكون عبر التلاحم والتآزر،لأننا دم واحد وتاريخ مشترك. أما وأنتم تشحنون المدرب خير الدين ماضوي وكأنه متوجه إلى ساحة الحرب،وتأمرون اللاعبين بوقرة ومداحي وكأنهما قائدا فريق مشاة...! إسمحوا لي أن أعترف،أني بت أشفق عليكم،وأدعو الله أن يتدبر أمر الحرارة المفرطةالتي تسكنكم. ونحن ندعو لكم بالشفاء معشر الكراغلة،نذكركم أنه وطوال التاريخ،ومنذ الحضارة الإغريقية التي عرفت ألعاب أثينا،ظلت الرياضة عنوانا للفرجة والتآخي والتعارف بين الشعوب لما تمثله من قيم إنسانية نبيلة،إنها تنشر السلام وتشجع على التسامح والاحترام وسمو الأخلاق،والرياضة بمعناها الصحيح ترفض أن تكون وسيلة لغاية أخرى لأنها منبع القيم السامية المثلى حين تنتصر الروح الرياضية. إننا نشفق عليكم،ونرثي لحالكم حين تعتبرون انتصارا صغيرا في كرة القدم عن طريق ضربات الحظ،عيدا وطنيا وملحمة بطولية،محاولين تهدئة الشارع الذي يعرف حراكا شعبيا. لقد ضاق الشعب الجزائري الشقيق درعا من ضيق العيش ومحنة الطوابير والرعب اليومي الجاثم على النفوس... الرياضة أخلاق وسمو إنساني نبيل...حاولوا أن تستفيقوا من غيكم،رغم أن داء العطب قديم... محمد بنطلحة الدكالي
ساحة

صرخة من قلب المهنة: الفوضى تُهين الإرشاد السياحي بمراكش
في سياق التحديات التي تعصف بمهنة الإرشاد السياحي في مراكش، يعرض هذا المقال وجهة نظر عدد من المرشدين السياحيين الذين يعانون من تدهور أوضاعهم المهنية بسبب ظواهر التسيب والتنظيم غير القانوني داخل القطاع. ومن المهم التنويه إلى أن ما يطرحه هذا المقال يعكس آراء مجموعة من المهنيين الذين يواجهون هذه التحديات بشكل يومي، وهذا نص المقال: "الانتسابات غير القانونية، المنافسة الفوضوية، وتواطؤ الصمت... من يُنقذ كرامة المرشدين؟ الوضع لم يعد يحتمل. مهنة الإرشاد السياحي، التي لطالما كانت واجهة حضارية للمغرب، تتعرض اليوم في مراكش لتشويه ممنهج، وسط تراخٍ واضح من السلطات المحلية والمركزية، وصمت مريب من الهيئات المهنية والتنظيمية. منذ سنوات، والمرشدون النظاميون يرفعون الصوت في وجه ظاهرة تتفشى في الخفاء: مرشدون غير مُعيّنين في المدينة يحصلون على انتساب غير قانوني داخل جمعية مهنية محلية، ويزاولون عملهم بشكل حرّ، ضاربين عرض الحائط بقوانين التعيين والتنظيم. القانون يُنتَهك والمهنة تنهار ما يجري ليس فقط خرقًا إداريًا، بل تقويض لمبادئ العدالة المهنية. المرشدون غير المعينين في مراكش يتعللون بأن القانون يمنحهم هذا الحق، مستندين إلى تأويلات شخصية تخدم مصالحهم، دون اعتبار للواقع القانوني أو الإداري، في وقت يُقصى فيه المرشدون الملتزمون ويُجبرون على تقبل التهميش. كرامة المرشد تُباع في سوق الأسعار تدهور آخر يسجله المهنيون يتمثل في اشتعال حرب أسعار مدمرة، حيث يعمد بعض المرشدين إلى خفض تسعيرتهم بشكل مبالغ فيه، ما يؤدي إلى ضرب جودة الخدمات في العمق، والإضرار بسمعة المدينة لدى السياح. "عندما يتحول المرشد إلى بائع خدمة رخيصة، فإن التفاعل، والمعلومة، والاحترافية تكون أولى الضحايا"، يقول أحد المرشدين المحليين. جمعيات متهمة... وسلطات غائبة عدد من الأصوات داخل القطاع تتهم بعض الجمعيات بالتواطؤ، حيث تُمنح بطاقات الانتساب بشكل غير قانوني، وأحيانًا مقابل مبالغ مالية، دون احترام لشروط التعيين الترابي ولا ضوابط المزاولة. المرشدون يطالبون اليوم بتحقيق رسمي في هذه الانتسابات، ومساءلة الجهات التي تغضّ الطرف عن هذه الفوضى، والتي تهدد المهنة من الداخل. السياحة تتطور... والمهنة تتآكل في وقت تتغير فيه تطلعات السياح نحو تجارب غنية، وتفاعلية، ومستدامة، يواجه المرشدون الملتزمون خطر الإقصاء على يد فوضى تنظيمية تُفرّغ المهنة من معناها وقيمتها الثقافية. المرشدون يطالبون بالتحرك... الآن! دعوات متصاعدة لإيقاف النزيف: فتح تحقيق عاجل في الانتسابات العشوائية؛ توقيف غير الملتزمين بالتعيين الرسمي؛ إصلاح جذري لهياكل الجمعيات المهنية؛ وتدخل فعلي لوزارة السياحة وولاية الجهة قبل فوات الأوان."
ساحة

“الحق المهني المسلوب”: من يُسكت صوت المرشدين السياحيين؟
في قطاع يُعدّ من الركائز الأساسية للاقتصاد المحلي والوطني، يجد مئات المرشدين السياحيين بجهة مراكش-آسفي أنفسهم في مواجهة تحديات مهنية وإدارية متزايدة. وسط غياب آليات فعالة لحماية حقوقهم، تتعالى أصواتهم مطالبة بالإصلاح، لكن هل من مجيب؟ هذا المقال يعكس انشغالات مجموعة من المهنيين الذين يرون أن الممارسات التنظيمية الحالية تُقصيهم بدل أن تدمجهم، ويطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل المهنة، وهذا نص المقال:"في قلب القطاع السياحي بمراكش-آسفي، يعيش مئات المرشدين حالة من التهميش الممنهج، في ظل تراكم ممارسات إدارية وتنظيمية غير متوازنة، وغياب الآليات الفعالة التي تضمن العدالة المهنية. الوضع الحالي يفرض علينا طرح أسئلة جريئة: من يُراقب؟ من يُحاسب؟ ومن يُنصف من لا صوت له؟جمعية في وضعية مخالفة... بلا محاسبةللسنة الثالثة على التوالي، لم تعقد الجمعية الجهوية للمرشدين السياحيين أي جمع عام، ولم تُعرض أي تقارير مالية أو أدبية، ومع ذلك تواصل تحصيل واجبات الانخراط، وتسليم الشهادات وكأن شيئاً لم يكن.أين دور المراقبة؟ من يتحمل مسؤولية تفعيل آليات الشفافية الداخلية؟ أليس استمرار هذا الوضع يمثل خرقاً لمبادئ الحكامة المهنية؟التكوين الرقمي: برنامج غير منصف لفئة واسعةفرض شهادة التكوين الرقمي ضمن وثائق تجديد الاعتماد جاء بهدف التأهيل، لكنه لم يُرفق، حسب عدد من المهنيين، بآليات واقعية لضمان مشاركة حقيقية ومتساوية، مما خلق شعوراً بالإقصاء لدى شريحة واسعة من المرشدين:مشاركات شكلية أو بالنيابة.غياب دعم فعلي للفئات غير المتمكنة من التكنولوجيا.شهادة تُمنح دون تأكيد فعلي لاكتساب المهارات.النتيجة؟ تكوين تحوّل إلى عبء إداري لا يراعي خصوصية الميدان.تجديد الرخصة: منطق الورق أم منطق الكفاءة؟المرشدون يقدمون ملفاتهم كاملة، لكن العديد منهم يُدرك أن ما يُطلب ليس بالضرورة انعكاساً حقيقياً للخبرة أو القدرة. شهادات انخراط صادرة عن جمعيات غير مفعلة تنظيمياً، وشهادات تكوين دون مضمون فعلي، فهل هذه مؤشرات تأهيل حقيقية؟ أم مجرد إجراء شكلي؟الشهادة الطبية: سؤال حول العدالة المهنيةيشكل شرط الشهادة الطبية عائقاً أمام عدد من المرشدين الذين يعانون من أمراض مزمنة أو حالات صحية مؤقتة. فهل العجز المؤقت أو الإعاقة الخفيفة تعني بالضرورة عدم الأهلية؟ وهل من العدل أن يُقصى شخص فقط لأنه يخضع لعلاج منتظم أو يعيش مع إعاقة بسيطة لا تمنعه من أداء مهامه؟الضمان الاجتماعي: بين التعقيد والإجحافيعاني عدد من المرشدين السياحيين من صعوبات متزايدة في تسوية وضعيتهم مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، في ظل غياب مواكبة فعلية تأخذ بعين الاعتبار طبيعة عملهم المستقل وغير المنتظم. ومن أبرز الإشكالات المطروحة:تعقيد مساطر الانتظام وتسديد المستحقات القديمة.تراكم مبالغ يصعب سدادها دفعة واحدة.وجود اقتطاعات بنكية غير دقيقة في بعض الحالات.تعرض المرشدين مزدوجي الجنسية لأداء مزدوج للواجبات دون تنسيق واضح بين الدول.هذا الوضع يُفاقم الهشاشة الاجتماعية للمرشدين، ويُفرغ التغطية الاجتماعية من مضمونها، ويُرسخ الإقصاء بدل الإدماج.مطالب مهنية ملحةافتحاص إداري ومالي للجمعية الجهوية ضماناً للشفافية.مراجعة آليات استخراج شهادات التكوين والانخراط.تيسير شروط الشهادة الطبية بشكل إنساني وعادل.فتح حوار مهني موسع لتصحيح المسار التنظيمي دون توتر أو صدام.رسالة مفتوحة لكل ضمير مهنيهذا المقال ليس مجرد وصف لاختلالات مهنية، بل هو نداء صادق يلامس كرامة كل مرشد سياحي. لسنا بصدد مطالب تعجيزية، بل نطالب فقط بما يضمن الاستمرارية في العمل بكرامة: تنظيم شفاف، تمثيلية شرعية، تكوين فعلي، وحماية اجتماعية عادلة.لقد طال الصمت، وكثُر التغاضي، وحان الوقت لنُعيد للمهنة صوتها ومكانتها. صوت المرشد ليس هامشيًا... إنه صوت الثقافة، والتاريخ، والانتماء."
ساحة

يونس مجاهد يكتب: مصداقية الخبر وطُعم النقرات
موضوع مصداقية الأخبار ليست جديدا في ثقافتنا، بل إنه متجذر فيها، وهناك مرجعيات كثيرة تحيلنا على الأهمية القصوى التي أوليت للفرق بين الخبر الصادق والخبر الكاذب في تراثنا، و لا أدل على ذلك من الآية الكريمة " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ". فالعودة لهذه المرجعيات سيكون مفيدا في مقاومة المد الجارف للتضليل والأخبار الملفقة والإثارة الرخيصة، التي يسعى تجار شبكات التواصل الاجتماعي إلى جعلها وسيلة للتشهير والإساءة، ومصدر اغتناء، غير عابئين بالقيم النبيلة التي من المفترض أن نتقاسمها كمجتمع. إن العودة إلى مرجعيتنا الحضارية والثقافية كفيل بأن يساهم إلى حد كبير في توفير وسائل وأدوات مقاومة الإتجار الرخيص في حرية التعبير، ففي مقدمة ابن خلدون التي أسست لعلم العمران البشري، هناك تدقيق مذهل لضرورة التمحيص في الأخبار، حيث يقول إنه من الضروري التمحيص والنظر في الخبر، حتى يتبين صدقه من كذبه، لأن الابتعاد عن الانتقاد والتمحيص يقع في قبول الكذب ونقله. ويضيف أن من الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار، أيضا، الثقة بالناقلين، وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. ومنها الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه، فيقع في الكذب. إن ابن خلدون، الذي سبق عصره، يتحدث هنا عن مصادر الأخبار، التي يعتبر أنه من غير الممكن تصديق ما تنقله بدون إعمال العقل النقدي. وهو من صميم العمل الصحافي، حيث أن التأكد من مصادر الأخبار ومدى مصداقيتها، هو جوهر المهنة، وهو أيضا ما يدرس اليوم في التربية على الإعلام، إذ أن أهم مبدأ يوصى به هو عدم تصديق أي "خبر"، إلا بعد التأكد من المصادر، أولا، ثم التمحيص والنظر في هذا الخبر، كما يقول ابن خلدون، ثانيا، لغربلته وإخضاعه للعقل والمنطق. وفي هذا الإطار، تؤكد التجربة، أنه لا يمكن للمجتمعات أن تستغني عن الصحافة المهنية، في تداول الأخبار، لأنها تكون صادرة عن صحافيين محترفين، يتوفرون على تكوين وخبرة ومستوى علمي، والأهم من ذلك، أنهم يشتغلون في بيئة صحافية، أي ضمن هيئة تحرير وميثاق أخلاقيات وقواعد العمل الصحافي. ولا يمكن لشبكات التواصل الاجتماعي أوما يسمي ب"المؤثرين"، أن تعوض العمل الصحافي الاحترافي، بحجة أنها "صحافة مستقلة"، فليس هناك إلا صحافة واحدة، إما أن تكون احترافية موضوعية وذات مصداقية، تعمل طبقا لأساسيات مهنة الصحافة وتقاليدها، أو لا تكون. الصحافي الحقيقي، كالمؤرخ، يقول عبد الله العروي، في كتابه "مفهوم التاريخ"، إذ يعتبر أن العديد من الملاحظين يشبهون الصحافي بالمؤرخ، فيقال إن الأول مؤرخ اللحظة، بينما الثاني صحافي الماضي، كلاهما يعتمد على مخبر، وكلاهما يؤول الخبر ليعطيه معنى، الفرق بينهما هو المهلة المخولة لكل واحد منهما، إذا ضاقت تحول المؤرخ إلى صحافي، وإذا عاد الصحافي إلى الأخبار وتأملها بعد مدة تحول إلى مؤرخ، أما إشكالية الموضوعية وحدود "إدراك الواقع كما حدث"، فهي واحدة بالنسبة لهما معا. والمقصود هنا، حسب العروي، هو أن كلا من الصحافي والمؤرخ، عليهما تحري الدقة في الأخبار والحوادث المنقولة، واعتماد المصادر الموثوقة، مثل التغطية الميدانية وشهود العيان أو معايشة الأحداث، بالإضافة إلى الوثائق والآثار الدالة على ما حصل... هذه هي الصحافة المستقلة، عن التلفيق والكذب والإثارة المجانية واستجداء عدد النقرات. ويعتبر اليوم "طُعم النقرات "clickbait، من الآفات الكبرى التي أصابت الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبح العديد ممن يسعون إلى تحقيق الأرباح، بأية وسيلة، اللجوء إلى تشويه الحقيقة وتقويض القيم الصحفية التقليدية، مثل الدقة والموضوعية والشفافية، همهم الوحيد هو الدخول في مهاترات وجدل عقيم، و اعتماد عناوين مثيرة، و كتابة أو بث كل ما يمكن أن يثير الفضول بدون معنى أو محتوى و بدون مصدر موثوق، كتاباتهم أو احاديثهم تتضمن تناقضات كثيرة، لكن كل ذلك يهون، بالنسبة لهم، أمام ما يمكن أن يحققونه من مداخيل. لذلك رفعت العديد من التنظيمات الصحافية في تجارب دولية، شعار؛ "لا تنقر"، أي تجنب طُعم الإثارة التجارية الرخيصة، التي تشوه الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي.
ساحة

التعليقات مغلقة لهذا المنشور

الطقس

°
°

أوقات الصلاة

الاثنين 21 أبريل 2025
الصبح
الظهر
العصر
المغرب
العشاء

صيدليات الحراسة