مشكل العلاقة بين السياسة والأخلاق – Kech24: Morocco News – كِشـ24 : جريدة إلكترونية مغربية
الثلاثاء 22 أبريل 2025, 05:48

ساحة

مشكل العلاقة بين السياسة والأخلاق


كشـ24 نشر في: 25 أغسطس 2018

"مشكل العلاقة بين السياسة والأخلاق" (من خلال نقد الأستاذ محمد سبيلا).دخل أستاذ الفلسفة، محمد سبيلا، في حرب ضد كل ما هو «نضالي» أو «اشتراكي». وأخذ يُبشِّر باكتشافاته ”الفلسفية“ الجديدة. كأن محمد سبيلا وصل، في آخر حياته، إلى خلاصات ”منيرة“، أو ”حكيمة“. وخلال أكثر من شهر، فتحت جريدة "المساء" لمحمد سبيلا رُكْنًا متواصلًا على صفحتها الأخيرة، تستجوبه عن فتوحاته ”الفلسفية“ الخارقة.ويزعم محمد سبيلا أن ”المناضل الاشتراكي“ لا يختلف عن ”الإرهابي الإسلامي“، من زاوية مناهج التَّـفكير، والقِيم، والأهداف، والأساليب. [أنظر مقال رحمان النوضة، "نقد أنصار الرأسمالية"، (https://wordpress.com/read/blogs/19553947/posts/2431].ومعظم تصريحات محمد سبيلا تصبّ في نفس الاتجاه. حيث يقول: ”الاشتراكية هي أكبر كذبة“، و”الاشتراكية هي مجرد وهم“. و”المناضل الاشتراكي لا يختلف في جوهره عن الإرهابي الإسلامي“، إلى آخره. ومعظم المناضلين الاشتراكيين عبر العالم يعرفون جيدًا هذه الأطروحات القديمة. لأنها ظهرت منذ ظهور حلم التحرّر من الرأسمالية، أو الانتقال إلى الاشتراكية، خلال القرن الثامن عشر.أنا احترم السيد محمد سبيلا، وأعتبر أنه من حقّه أن يُدافع عن أفكاره وقناعاته. لكنني أختلف معه، وأعتبر أنه من حقّي أنا أيضًا أن أنتـقد أطروحاته.يتكلّم محمد سبيلا كأنه يُحلّل تجربة ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، أو كأنه ينتـقد أفكاره، وتصوراته، وسلوكياته. لكن عندما يتمعّن القارئ في أطروحات محمد سبيلا، يجد أنها أطروحات يمينية، وأنها تُدَعِّم وتُنَظِّر لمواقف وسلوكيات تيار السيد إدريس لَشْكَر اليميني، الذي يُسيطر على هذا الحزب. ومحمد سبيلا يتبرَّأ من سلوكيات تِيَّار ادريس لشكر، لكنه يلتقي معه في العمق، على مستوى الأفكار والمبادئ السياسية. لأن ادريس لشكر يُطَبِّق بالضّبط الأطروحات السياسية التي يُبرِّرها محمد سبيلا.ويدافع صراحةً محمد سبيلا على منظور بورجوازي للعمل السياسي. ومعظم أعضاء ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، وكذلك معظم أعضاء الأحزاب اليمينة، أو الرأسمالية، الموجودة في العالم، يقولون نفس الشيء الذي اكْتَشَفَه محمد سبيلا في آخر حياته. وهو أن «السياسة هي فن النفاق والانتهازية». ومعظم مناضلي البلدان الناطقة بالعربية، يدركون أن مثل هذه القِيَم والتصوّرات الانتهازية، هي التي خرّبت أوطانهم.ويدافع محمد سبيلا مرارًا عن «مرونة الفاعل السياسي الذي يمكن أن ينقلب 180 درجة، وأن يبرّر ذلك» (المصدر: جريدة "المساء"، العدد 3670). وأضاف محمد سبيلا: «المَكْر، وسُوء النِّيَة، من الشروط البنيوية العضوية الأساسية للعمل السياسي. و[الشخص] الذي لا يتوفّر على هذه الشروط، لا يمكنه أن يلج عالم الفعل السياسي» (نفس المصدر السابق). وزاد محمد سبيلا قائلا: «الكذب فضيلة سياسية، بل إنه ضرورة سياسية». وكُلُّنا نعرف أن محمد سبيلا لا ينفرد بهذه الأطروحات، وإنما مجمل السياسيين الفاسدين أو المستبدّين، سواءً في بلادنا أم في بلدان أخرى، يمارسون مثل هذه السّلوكيات.ونتساءل: لمن يكتب محمد سبيلا هذه الأفكار؟ ولمن يوجّه هذه النصائح؟ هل يوجّهها إلى الفاعلين السياسيين الذين يهيمنون على المغرب ويفترسونه؟ هؤلاء السياسيين المُفْتَرِسِين، لا يحتاجون إلى الاكتشافات النظرية لمحمد سبيلا. فَغَرَائِزُهم الحيوانية تَكْفِيهِم لكي يُطَبِّقًوا هذا التوجُّه. وهل يوجّه محمد سبيلا نصائحه إلى المناضلين الثوريين الذين يرفضون كل سياسة تُعاكس العدل أو الأخلاق؟ التَمَعُّن في أطروحات محمد سبيلا يُبَيِّن أن اجتهاده هو عمل يميني، بل "رجعي"، ويضرّ بالمجتمع، ولا يفيده.عندما أَصف أفكار محمد سبيلا بِكونها «رجعية»، هل أمارس السبّ أو القذف؟ كلَّا! ولماذا؟ لعدّة أسباب. محمد سبيل يقول «المَكْر، وسوء النّية، من الشروط البنيوية العضوية الأساسية للعمل السياسي... والكذب فضيلة سياسية، بل إنه ضرورة سياسية». ومحمد سبيلا لا ينتقد، وإنما يُنظِّر خِصْلَةَ النِّفَاق، ويُبرّرها، ويمجّدها. كيف ذلك؟إذا فحصنا مختلف بلدان عالم اليوم، سنجد أنها نوعان: نوع من البلدان (مثل المغرب، والجزائر، ومصر، والعراق، والسعودية، والإمارات، إلى آخره)، تُمَارَسُ فيها ”السياسة“ فعلًا كَـ ”فن الكذب، والانتهازية، والنّفاق، والغش، والفساد“. ويوجد نوع ثان من بلدان العالم، تفرض فيها ”دولة الحق والقانون“ (ولو كانت نسبية) بأن يَـتَـقَيَّـد فيها كل الفاعلين السياسيين بالقوانين، وبالأخلاق. لهذا نجد مسؤولين كبار في هذه الدول، بما فيهم رؤساء دول، يُحاسبون في هذا النوع الثاني من البلدان، ويعاقبون على كل كذب، أو غشّ، أو فساد، ثَـبُـتَ ضدّهم. وكأمثلة على ذلك، نجد الرئيس "دُونَالْدْ تْرَامْب" في الولايات المتحدة الأمريكية مُتابع في قضايا تتعلق بالجنس، والغشّ في الانتخابات عبر تواطؤ مع جهات روسية، والتهرّب من بعض الضرائب. ونجد في فرنسا أن الرئيس الأسبق "جاك شيراك" تُوبِعَ وحوكم في عدّة قضايا، أبرزها قضية المَاس (diamants) عُمَر بَانْغُو. ونجد أن الرئيس "نِكُولًا ساركوزي" تُوبِعَ وحوكم في قضية تمويل جزء من حملاته الانتخابية بأموال غير شرعية. ونجد في كوريا الجنوبية أن البرلمان صوّت بالأغلبية المطلقة لصالح إقالة الرئيسة السابقة "بَارْكْ جُونْ هِي" [Park Geun-hye]، ثم وافقت المحكمة الدستورية على عزلها من منصب رئاسة الجمهورية، بعدما ثَبُتَ تورّطها في رَشَاوَى من شركة "سامسون". إلى آخره. ما معنى هذه الأحداث أو الأمثلة؟ معناها أن الدولة التي تكون ”دولة حق وقانون“ (ولو نسبيًّا)، لا يُسمح لأي فاعل سياسي فيها، ومَهْمَا عَلَى شأنه، بأن يخرق القانون، أو الأخلاق، أو أن يُمارس الكذب، أو الغشّ، أو الفساد! وأمام مثل هذا المشهد السياسي العالمي، نجد أن محمد سبيلا، بِتَنْظِيره للكذب والنفاق، يدفعنا إلى تقليد النوع الأول من البلدان المتخلّفة، بدلًا من أن يحثّنا على الاقتداء بالنوع الثاني المتقدّم من بلدان العالم. وعليه، فَدَعَوَات محمد سبيلا تكتسي طابعًا متخلِّفًا، أو "رجعيا".وعلى عكس ظنون محمد سبيلا، تبقى أفكاره متخلّفة حتى بالمقارنة مع أفكار ”مَاكْيَافِيلِّي“، لأن هذا الأخير، في بعض فقرات كتابه ”الأمير“، يشير إلى أن كل سياسة لا ترمي إلى تحقيق العدل في المجتمع، يكون مآلها حتمًا، وفي آخر المطاف، هو الفشل والزوال. [وقد فصّلتُ في ذلك في كتابييّ بالفرنسية: (Le Politique)، (L'Ethique politique)، ويمكن تحميله بالمجّان من مدوّنتي (https://LivresChauds.Wordpress.Com)].وأضاف محمد سبيلا: «من الصعب تحويل الإنسان إلى كائن عقلاني»، أو عادل. ولو كان محمد سبيلا يعطي هنا لكلمة «صعب» معنى أن محاولة "تحويل الإنسان إلى كائن عقلاني" أو عادل، هو عمل يتطلب جهدًا جَبَّارًا، ونضالات مجتمعية متواصلة، وطويلة الأمد، لَكُنْتُ قد اتـفـقتُ معه. لكن إذا اعتبرنا أطروحات محمد سبيلا الأخرى اليمينية، ندرك أن محمد سبيلا يعني أن تحويل الإنسان إلى كائن عقلاني أو عادل، هو محاولة "مستحيلة". وإذا كانت أطروحة محمد سبيلا السابقة صحيحة، ماذا يبقى لنا إذن في هذه الحالة؟ لا يبقى لنا، حسب ”فلسفة“ محمد سبيلا، سوى القبول بواقع المجتمع كما هو، والقبول بالرأسمالية المتوحشة، والقبول بالاستبداد والفساد، وأن نرضى بأن نكون كلّنا حيوانات تفترس بعضها بعضا، بدون شفقة، ولا أخلاق، ولا عدل، ولا مبادئ، ولا حقوق إنسان. وإلى متى؟ إلى أن تؤدّي أنانية البشر، وانتهازيتهم، وحماقاتهم، إلى فناء البشرية.ولكي نسير في هذا التوجّه ”السًّبِيلَاوي“، لا نحتاج لِـ ”فلسفة“ محمد سبيلا، ولا إلى أية ثقافة، أو علم، أو تكوين. وإنما يكفي أن نطلق العِنَان لغرائزنا الحيوانية، وأبرزها الأنانية، والانتهازية، والنفاق، والغشّ، والغدر، والفساد، والاغتناء غير المشورع، وغير الأخلاقي. وهذا ما لا يقبله أي مواطن يتشبَّـثُ بالأخلاق، أو يطمح إلى العدل المُجتمعي. ومن منظورنا، لا يمكن أن يكون أي عمل سياسي محترمًا، أو نبيلًا، أو مقبولًا، إلَّا إذا كان مُلْتَزِمًا باحترام العدل والأخلاق. [أنظر كتاب رحمان النوضة: "L’Ethique politique"، ويمكن تحميله بالمجان من مدوّنته: (https://livreschauds.files.wordpress.com/…/livre-lc3a9thiqu…)].وكثير من المناضلين الحاليين بالمغرب (في سنة 2018)، لا يعرفون أنه من بين نقط الخلاف النظري والسياسي الذي كان موجودًا بين "الحركة الماركسية اللِّينِينِية" بالمغرب من جهة أولى، ومن جهة ثانية "الحركة الإتِّحَادية" (أي الحركة التابعة لحزب "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية"، ثم "حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية")، جوهر هذا الخلاف هو أن "الحركة الماركسية اللينينية" كانت تُصِرُّ على أن يلتزم كل فاعل سياسي باحترام الأخلاق (إذا كانت حميدة)، والقوانين (إذا كانت عادلة). بينما "الحركة الاتحادية" كانت تقبل الفصلَ بين السياسة والأخلاق. وكانت "الحركة الاتحادية" تزعم أن العمل السياسي يستوجب بالضرورة قدرًا محدّدًا من الكذب، أو التحايل، أو النِّفَاق، أو الغشّ، أو الانتهازية. بينما ترفض مبدئيًّا "الحركة الماركسية اللينينية" أي سلوك انتهازي في العمل السياسي. وقد خُضنا صراعات سياسية ونظرية، مريرة وحادّة، مع المناضلين "الاتحاديين". وكنا نقول لهم: كل عمل سياسي لا يلتزم بالأخلاق يتحول في آخر المطاف إلى جرائم. وكانت "الحركة الماركسية اللينينية" تقول "للإتحاديِّين": إن القبول بقدر قليل من الانتهازية في العمل السياسي يؤدي حَتْمًا إلى تلويث العمل السياسي كلّه بالغشّ، والنفاق، والخداع، والغدر، والاستبداد، والفساد، والاستلاب. وهو ما ليس في صالح الشعب.أنا لم أقصد أبدًا (كما تصوّر البعض) أن المناضلين "الاتحاديين" كانوا دائما يكذبون، أو يغشّون، أو يناورن. على عكس ذلك الظّن، كانت لنا علاقات متعدّدة ومتنوعة مع كثير من المناضلين "الاتحاديين"، وخاصة في أجنحته اليسارية. ونكنّ (في الماضي، وفي الحاضر) لكل هؤلاء المناضلين "الاتحاديين" التقدير والاحترام. وأنا لا أزعم أن مناضلي "الحركة الماركسية اللينينية" كانوا، أو ما زالوا، كلهم معصومين من الأخطاء. بل لنا نحن أيضا أخطاء، أو نقائص، أو نقط ضعف، أو حتى انحرافات (أنظر في هذا المجال كتابي النقدي تحت عنوان: "نقد أحزاب اليسار بالمغرب"، ويمكن تحميله من مدوّنتي الشخصية). وفي تقديري، أن ما يطرحه اليوم السيد المحترم محمد سبيلا، كمناضل هام سابق في "حزب الاتحاد"، لم ينزل فجأة من عدم، أو من السماء. وإنما هو امتداد لتلك الظاهرة التي أشرتُ لها سابقًا. وأطروحات محمد سبيلا هي تعبير عن آراء كانت (وما زالت) منتشرة داخل حزب "الاتحاد". وتاريخ "حزب الاتحاد" يشهد على ذلك ويؤكّده.ومعظم الانشقاقات والصراعات السياسية التي اشتعلت داخل "حزب الاتحاد"، كانت تُطرح فيها، ولو جزئيا، إشكالية الصراع حول مدى الالتزام بالأخلاق في العمل الحزبي أو السياسي. ويمكن لأي مهتم أن يبحث مثلا في مواقف، وممارسات، وأقوال، وكتابات، بعض المسؤولين الاتحاديين، خلال سنوات السبعينات، وخاصة في ما يجري "داخل" الاجتماعات الحزبية الداخلية، وسيكتشف أن الثقافة السائدة في "حزب الاتحاد" كانت تسمح، أو تتقبّل، ما يعبّر عنه اليوم السيد محمد سبيلا في مجال "العلاقة بين السياسة والأخلاق"، رغم أن محمد سبيلا يقدم هذا النوع من "العلاقة بين السياسة والأخلاق" كاكتشاف شخصي جديد، بينما هو في الواقع قديم.وقد قال محمد سبيلا مِرارًا وتكرارا أن «الاشتراكية هي مجرّد وهم»! لنفرض أن كلامه صحيح. وفي هذه الحالة، ما هي نتيجة هذا التصريح؟ نتيجته المباشرة هي أن الحقيقة الوحيدة القائمة، الحتمية، والأزلية، في العالم كلّه، هي الرأسمالية! بمعنى أن محمد سبيلا، المناضل السابق في "حزب الاتحاد الاشتراكي"، يقول لنا: "لا تحلموا بالوصول في مستقبل مجهول إلى الاشتراكية، إنها مستحيلة، وما عليكم سوى أن تخضعوا للرأسمالية، رغم كل ما فيها من استغلال، واستبداد، وفساد". هذا هو ”التبشير الفلسفي الجديد“ لمحمد سبيلا! وتَـتَّسِمُ هذه الأفكار، التي يُبشِّر بها أستاذ الفلسفة محمد سبيلا، بكونها محافظة، ويمينية، ومناصرة للرّأسمالية. ورغم أن محمد سبيلا اختلف مع قيادة ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، ثم ابتعد عن هذا الحزب منذ سنوات، وذلك في إطار صيرورة تَـفَكُّك وانحلال هذا الحزب، فإن الأفكار اليمينية التي يُبشِّر بها محمد سبيلا تنتمي عضويًا لظاهرة انحلال ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، وتعبّر جيّدًا عن التِّيه الفكري، أو الانحراف القِيمي، اللذين أصابا هذا الحزب.وفي العمق، فإن انحطاط أفكار محمد سبيلا ترتبط عضويا بالانحطاط السياسي والأخلاقي الذي سقط فيه "حزب الاتحاد الاشتراكي"، رغم أن محمد سبيلا ابتعد عن هذا الحزب منذ سنوات.وفي الختام، لنحاول توسيع تفكيرنا. إذا نحن أنهينا هذا المقال عند هذه النقطة، فإننا سنكون قد "ظلمنا" السيد محمد سبيلا. و"الظلم" مرفوض، لأنه يتنافى مع "الأخلاق"، حتّى ولو كانت المساطر "القانونية" القائمة لا تجرّم هذا "الظلم". فإذا أنهينا هذا المقال هنا، فإننا سَنُعطي للقارئ انطباعًا خاطئًا بأن كل شيء في بلاد المغرب هو على أحسن ما يُرام، وأن المشكل الأساسي في المغرب هو أن شخصا اسمه محمد سبيلا قال: «المَكْر، وسُوء النِّيَة، والكذب ... [ضروريِّين] في العمل السياسي». لكن الحقيقة هي أن محمد سبيلا ليس حاكمًا، ولا وزيرًا، ولا مسؤولا كبيرا في الدولة، ولا منتخبا في البرلمان أو في المجالس المحلّية، ولا فاعلًا اقتصاديا هامًّا، ولا زعيمًا حزبيًّا. وإنما محمد سبيلا هو مجرد مواطن متواضع، يدرّس الفلسفة، ويتكلّم، ويخطب، ويكتب، وينشر. لكن محمد سبيلا لا يؤثّر لا في الحياة السياسية، ولا الاقتصادية. بل المشكل الأساسي في بلاد المغرب، هو أن معظم أفراد الطبقة الحاكمة، وكذلك أفراد الطبقة السياسية، ومعظم الفاعلين الاقتصاديين، ومعظم المسؤولين الحزبيين، معظمهم لا يتكلّمون، ولا يخطبون، ولا يكتبون، وإنما يمارسون يوميًا، في العَلَن أو في السِرِّ، يمارسون الكذب، والتحايل، والخداع، والغشّ، والنفاق، والتزوير، والنّهب، والفساد، والاستبداد. معظمهم يخرقون القانون، ويدوسون الأخلاق. هذا هو المشكل المجتمعي الحقيقي. ومأساتنا الكبيرة، هي أن غالبية شعبنا تسبح في الجهل، والتخلّف، والخضوع، والانحطاط. بل تُمارس غالبية أفراد شعبنا الأنانية، والغش، والانتهازية، في مجمل الميادين. لكن هذا موضوع آخر (حَلَّلْتُه في كتابي "نقد الشعب"). وواجبنا، ليس هو الانشغال بمواطن بسيط مثل محمد سبيلا، وإنما هو نـقد هؤلاء الأشخاص السائدين في المجتمع، وفضحهم، ومحاسبتهم. فمحمد سبيلا يتكلّم ولا يؤثّر، بينما أفراد الطبقات السائدة والمُسْتَغِلَّة، المستبدِّين والفاسدين، يُؤَثِّرُون، ويقرّرون، ويحدّدون مصيرنا، مصير الخضوع، والاستبداد، والاستغلال، والتّفـقير، والتخلُّف، والألم، والانحطاط المجتمعي. فالمشكل الهام يوجد هنا، وليس في محمد سبيلا. وبه نختم هذا المقال.رحمان النوضة (22 غشت 2018)

"مشكل العلاقة بين السياسة والأخلاق" (من خلال نقد الأستاذ محمد سبيلا).دخل أستاذ الفلسفة، محمد سبيلا، في حرب ضد كل ما هو «نضالي» أو «اشتراكي». وأخذ يُبشِّر باكتشافاته ”الفلسفية“ الجديدة. كأن محمد سبيلا وصل، في آخر حياته، إلى خلاصات ”منيرة“، أو ”حكيمة“. وخلال أكثر من شهر، فتحت جريدة "المساء" لمحمد سبيلا رُكْنًا متواصلًا على صفحتها الأخيرة، تستجوبه عن فتوحاته ”الفلسفية“ الخارقة.ويزعم محمد سبيلا أن ”المناضل الاشتراكي“ لا يختلف عن ”الإرهابي الإسلامي“، من زاوية مناهج التَّـفكير، والقِيم، والأهداف، والأساليب. [أنظر مقال رحمان النوضة، "نقد أنصار الرأسمالية"، (https://wordpress.com/read/blogs/19553947/posts/2431].ومعظم تصريحات محمد سبيلا تصبّ في نفس الاتجاه. حيث يقول: ”الاشتراكية هي أكبر كذبة“، و”الاشتراكية هي مجرد وهم“. و”المناضل الاشتراكي لا يختلف في جوهره عن الإرهابي الإسلامي“، إلى آخره. ومعظم المناضلين الاشتراكيين عبر العالم يعرفون جيدًا هذه الأطروحات القديمة. لأنها ظهرت منذ ظهور حلم التحرّر من الرأسمالية، أو الانتقال إلى الاشتراكية، خلال القرن الثامن عشر.أنا احترم السيد محمد سبيلا، وأعتبر أنه من حقّه أن يُدافع عن أفكاره وقناعاته. لكنني أختلف معه، وأعتبر أنه من حقّي أنا أيضًا أن أنتـقد أطروحاته.يتكلّم محمد سبيلا كأنه يُحلّل تجربة ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، أو كأنه ينتـقد أفكاره، وتصوراته، وسلوكياته. لكن عندما يتمعّن القارئ في أطروحات محمد سبيلا، يجد أنها أطروحات يمينية، وأنها تُدَعِّم وتُنَظِّر لمواقف وسلوكيات تيار السيد إدريس لَشْكَر اليميني، الذي يُسيطر على هذا الحزب. ومحمد سبيلا يتبرَّأ من سلوكيات تِيَّار ادريس لشكر، لكنه يلتقي معه في العمق، على مستوى الأفكار والمبادئ السياسية. لأن ادريس لشكر يُطَبِّق بالضّبط الأطروحات السياسية التي يُبرِّرها محمد سبيلا.ويدافع صراحةً محمد سبيلا على منظور بورجوازي للعمل السياسي. ومعظم أعضاء ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، وكذلك معظم أعضاء الأحزاب اليمينة، أو الرأسمالية، الموجودة في العالم، يقولون نفس الشيء الذي اكْتَشَفَه محمد سبيلا في آخر حياته. وهو أن «السياسة هي فن النفاق والانتهازية». ومعظم مناضلي البلدان الناطقة بالعربية، يدركون أن مثل هذه القِيَم والتصوّرات الانتهازية، هي التي خرّبت أوطانهم.ويدافع محمد سبيلا مرارًا عن «مرونة الفاعل السياسي الذي يمكن أن ينقلب 180 درجة، وأن يبرّر ذلك» (المصدر: جريدة "المساء"، العدد 3670). وأضاف محمد سبيلا: «المَكْر، وسُوء النِّيَة، من الشروط البنيوية العضوية الأساسية للعمل السياسي. و[الشخص] الذي لا يتوفّر على هذه الشروط، لا يمكنه أن يلج عالم الفعل السياسي» (نفس المصدر السابق). وزاد محمد سبيلا قائلا: «الكذب فضيلة سياسية، بل إنه ضرورة سياسية». وكُلُّنا نعرف أن محمد سبيلا لا ينفرد بهذه الأطروحات، وإنما مجمل السياسيين الفاسدين أو المستبدّين، سواءً في بلادنا أم في بلدان أخرى، يمارسون مثل هذه السّلوكيات.ونتساءل: لمن يكتب محمد سبيلا هذه الأفكار؟ ولمن يوجّه هذه النصائح؟ هل يوجّهها إلى الفاعلين السياسيين الذين يهيمنون على المغرب ويفترسونه؟ هؤلاء السياسيين المُفْتَرِسِين، لا يحتاجون إلى الاكتشافات النظرية لمحمد سبيلا. فَغَرَائِزُهم الحيوانية تَكْفِيهِم لكي يُطَبِّقًوا هذا التوجُّه. وهل يوجّه محمد سبيلا نصائحه إلى المناضلين الثوريين الذين يرفضون كل سياسة تُعاكس العدل أو الأخلاق؟ التَمَعُّن في أطروحات محمد سبيلا يُبَيِّن أن اجتهاده هو عمل يميني، بل "رجعي"، ويضرّ بالمجتمع، ولا يفيده.عندما أَصف أفكار محمد سبيلا بِكونها «رجعية»، هل أمارس السبّ أو القذف؟ كلَّا! ولماذا؟ لعدّة أسباب. محمد سبيل يقول «المَكْر، وسوء النّية، من الشروط البنيوية العضوية الأساسية للعمل السياسي... والكذب فضيلة سياسية، بل إنه ضرورة سياسية». ومحمد سبيلا لا ينتقد، وإنما يُنظِّر خِصْلَةَ النِّفَاق، ويُبرّرها، ويمجّدها. كيف ذلك؟إذا فحصنا مختلف بلدان عالم اليوم، سنجد أنها نوعان: نوع من البلدان (مثل المغرب، والجزائر، ومصر، والعراق، والسعودية، والإمارات، إلى آخره)، تُمَارَسُ فيها ”السياسة“ فعلًا كَـ ”فن الكذب، والانتهازية، والنّفاق، والغش، والفساد“. ويوجد نوع ثان من بلدان العالم، تفرض فيها ”دولة الحق والقانون“ (ولو كانت نسبية) بأن يَـتَـقَيَّـد فيها كل الفاعلين السياسيين بالقوانين، وبالأخلاق. لهذا نجد مسؤولين كبار في هذه الدول، بما فيهم رؤساء دول، يُحاسبون في هذا النوع الثاني من البلدان، ويعاقبون على كل كذب، أو غشّ، أو فساد، ثَـبُـتَ ضدّهم. وكأمثلة على ذلك، نجد الرئيس "دُونَالْدْ تْرَامْب" في الولايات المتحدة الأمريكية مُتابع في قضايا تتعلق بالجنس، والغشّ في الانتخابات عبر تواطؤ مع جهات روسية، والتهرّب من بعض الضرائب. ونجد في فرنسا أن الرئيس الأسبق "جاك شيراك" تُوبِعَ وحوكم في عدّة قضايا، أبرزها قضية المَاس (diamants) عُمَر بَانْغُو. ونجد أن الرئيس "نِكُولًا ساركوزي" تُوبِعَ وحوكم في قضية تمويل جزء من حملاته الانتخابية بأموال غير شرعية. ونجد في كوريا الجنوبية أن البرلمان صوّت بالأغلبية المطلقة لصالح إقالة الرئيسة السابقة "بَارْكْ جُونْ هِي" [Park Geun-hye]، ثم وافقت المحكمة الدستورية على عزلها من منصب رئاسة الجمهورية، بعدما ثَبُتَ تورّطها في رَشَاوَى من شركة "سامسون". إلى آخره. ما معنى هذه الأحداث أو الأمثلة؟ معناها أن الدولة التي تكون ”دولة حق وقانون“ (ولو نسبيًّا)، لا يُسمح لأي فاعل سياسي فيها، ومَهْمَا عَلَى شأنه، بأن يخرق القانون، أو الأخلاق، أو أن يُمارس الكذب، أو الغشّ، أو الفساد! وأمام مثل هذا المشهد السياسي العالمي، نجد أن محمد سبيلا، بِتَنْظِيره للكذب والنفاق، يدفعنا إلى تقليد النوع الأول من البلدان المتخلّفة، بدلًا من أن يحثّنا على الاقتداء بالنوع الثاني المتقدّم من بلدان العالم. وعليه، فَدَعَوَات محمد سبيلا تكتسي طابعًا متخلِّفًا، أو "رجعيا".وعلى عكس ظنون محمد سبيلا، تبقى أفكاره متخلّفة حتى بالمقارنة مع أفكار ”مَاكْيَافِيلِّي“، لأن هذا الأخير، في بعض فقرات كتابه ”الأمير“، يشير إلى أن كل سياسة لا ترمي إلى تحقيق العدل في المجتمع، يكون مآلها حتمًا، وفي آخر المطاف، هو الفشل والزوال. [وقد فصّلتُ في ذلك في كتابييّ بالفرنسية: (Le Politique)، (L'Ethique politique)، ويمكن تحميله بالمجّان من مدوّنتي (https://LivresChauds.Wordpress.Com)].وأضاف محمد سبيلا: «من الصعب تحويل الإنسان إلى كائن عقلاني»، أو عادل. ولو كان محمد سبيلا يعطي هنا لكلمة «صعب» معنى أن محاولة "تحويل الإنسان إلى كائن عقلاني" أو عادل، هو عمل يتطلب جهدًا جَبَّارًا، ونضالات مجتمعية متواصلة، وطويلة الأمد، لَكُنْتُ قد اتـفـقتُ معه. لكن إذا اعتبرنا أطروحات محمد سبيلا الأخرى اليمينية، ندرك أن محمد سبيلا يعني أن تحويل الإنسان إلى كائن عقلاني أو عادل، هو محاولة "مستحيلة". وإذا كانت أطروحة محمد سبيلا السابقة صحيحة، ماذا يبقى لنا إذن في هذه الحالة؟ لا يبقى لنا، حسب ”فلسفة“ محمد سبيلا، سوى القبول بواقع المجتمع كما هو، والقبول بالرأسمالية المتوحشة، والقبول بالاستبداد والفساد، وأن نرضى بأن نكون كلّنا حيوانات تفترس بعضها بعضا، بدون شفقة، ولا أخلاق، ولا عدل، ولا مبادئ، ولا حقوق إنسان. وإلى متى؟ إلى أن تؤدّي أنانية البشر، وانتهازيتهم، وحماقاتهم، إلى فناء البشرية.ولكي نسير في هذا التوجّه ”السًّبِيلَاوي“، لا نحتاج لِـ ”فلسفة“ محمد سبيلا، ولا إلى أية ثقافة، أو علم، أو تكوين. وإنما يكفي أن نطلق العِنَان لغرائزنا الحيوانية، وأبرزها الأنانية، والانتهازية، والنفاق، والغشّ، والغدر، والفساد، والاغتناء غير المشورع، وغير الأخلاقي. وهذا ما لا يقبله أي مواطن يتشبَّـثُ بالأخلاق، أو يطمح إلى العدل المُجتمعي. ومن منظورنا، لا يمكن أن يكون أي عمل سياسي محترمًا، أو نبيلًا، أو مقبولًا، إلَّا إذا كان مُلْتَزِمًا باحترام العدل والأخلاق. [أنظر كتاب رحمان النوضة: "L’Ethique politique"، ويمكن تحميله بالمجان من مدوّنته: (https://livreschauds.files.wordpress.com/…/livre-lc3a9thiqu…)].وكثير من المناضلين الحاليين بالمغرب (في سنة 2018)، لا يعرفون أنه من بين نقط الخلاف النظري والسياسي الذي كان موجودًا بين "الحركة الماركسية اللِّينِينِية" بالمغرب من جهة أولى، ومن جهة ثانية "الحركة الإتِّحَادية" (أي الحركة التابعة لحزب "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية"، ثم "حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية")، جوهر هذا الخلاف هو أن "الحركة الماركسية اللينينية" كانت تُصِرُّ على أن يلتزم كل فاعل سياسي باحترام الأخلاق (إذا كانت حميدة)، والقوانين (إذا كانت عادلة). بينما "الحركة الاتحادية" كانت تقبل الفصلَ بين السياسة والأخلاق. وكانت "الحركة الاتحادية" تزعم أن العمل السياسي يستوجب بالضرورة قدرًا محدّدًا من الكذب، أو التحايل، أو النِّفَاق، أو الغشّ، أو الانتهازية. بينما ترفض مبدئيًّا "الحركة الماركسية اللينينية" أي سلوك انتهازي في العمل السياسي. وقد خُضنا صراعات سياسية ونظرية، مريرة وحادّة، مع المناضلين "الاتحاديين". وكنا نقول لهم: كل عمل سياسي لا يلتزم بالأخلاق يتحول في آخر المطاف إلى جرائم. وكانت "الحركة الماركسية اللينينية" تقول "للإتحاديِّين": إن القبول بقدر قليل من الانتهازية في العمل السياسي يؤدي حَتْمًا إلى تلويث العمل السياسي كلّه بالغشّ، والنفاق، والخداع، والغدر، والاستبداد، والفساد، والاستلاب. وهو ما ليس في صالح الشعب.أنا لم أقصد أبدًا (كما تصوّر البعض) أن المناضلين "الاتحاديين" كانوا دائما يكذبون، أو يغشّون، أو يناورن. على عكس ذلك الظّن، كانت لنا علاقات متعدّدة ومتنوعة مع كثير من المناضلين "الاتحاديين"، وخاصة في أجنحته اليسارية. ونكنّ (في الماضي، وفي الحاضر) لكل هؤلاء المناضلين "الاتحاديين" التقدير والاحترام. وأنا لا أزعم أن مناضلي "الحركة الماركسية اللينينية" كانوا، أو ما زالوا، كلهم معصومين من الأخطاء. بل لنا نحن أيضا أخطاء، أو نقائص، أو نقط ضعف، أو حتى انحرافات (أنظر في هذا المجال كتابي النقدي تحت عنوان: "نقد أحزاب اليسار بالمغرب"، ويمكن تحميله من مدوّنتي الشخصية). وفي تقديري، أن ما يطرحه اليوم السيد المحترم محمد سبيلا، كمناضل هام سابق في "حزب الاتحاد"، لم ينزل فجأة من عدم، أو من السماء. وإنما هو امتداد لتلك الظاهرة التي أشرتُ لها سابقًا. وأطروحات محمد سبيلا هي تعبير عن آراء كانت (وما زالت) منتشرة داخل حزب "الاتحاد". وتاريخ "حزب الاتحاد" يشهد على ذلك ويؤكّده.ومعظم الانشقاقات والصراعات السياسية التي اشتعلت داخل "حزب الاتحاد"، كانت تُطرح فيها، ولو جزئيا، إشكالية الصراع حول مدى الالتزام بالأخلاق في العمل الحزبي أو السياسي. ويمكن لأي مهتم أن يبحث مثلا في مواقف، وممارسات، وأقوال، وكتابات، بعض المسؤولين الاتحاديين، خلال سنوات السبعينات، وخاصة في ما يجري "داخل" الاجتماعات الحزبية الداخلية، وسيكتشف أن الثقافة السائدة في "حزب الاتحاد" كانت تسمح، أو تتقبّل، ما يعبّر عنه اليوم السيد محمد سبيلا في مجال "العلاقة بين السياسة والأخلاق"، رغم أن محمد سبيلا يقدم هذا النوع من "العلاقة بين السياسة والأخلاق" كاكتشاف شخصي جديد، بينما هو في الواقع قديم.وقد قال محمد سبيلا مِرارًا وتكرارا أن «الاشتراكية هي مجرّد وهم»! لنفرض أن كلامه صحيح. وفي هذه الحالة، ما هي نتيجة هذا التصريح؟ نتيجته المباشرة هي أن الحقيقة الوحيدة القائمة، الحتمية، والأزلية، في العالم كلّه، هي الرأسمالية! بمعنى أن محمد سبيلا، المناضل السابق في "حزب الاتحاد الاشتراكي"، يقول لنا: "لا تحلموا بالوصول في مستقبل مجهول إلى الاشتراكية، إنها مستحيلة، وما عليكم سوى أن تخضعوا للرأسمالية، رغم كل ما فيها من استغلال، واستبداد، وفساد". هذا هو ”التبشير الفلسفي الجديد“ لمحمد سبيلا! وتَـتَّسِمُ هذه الأفكار، التي يُبشِّر بها أستاذ الفلسفة محمد سبيلا، بكونها محافظة، ويمينية، ومناصرة للرّأسمالية. ورغم أن محمد سبيلا اختلف مع قيادة ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، ثم ابتعد عن هذا الحزب منذ سنوات، وذلك في إطار صيرورة تَـفَكُّك وانحلال هذا الحزب، فإن الأفكار اليمينية التي يُبشِّر بها محمد سبيلا تنتمي عضويًا لظاهرة انحلال ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، وتعبّر جيّدًا عن التِّيه الفكري، أو الانحراف القِيمي، اللذين أصابا هذا الحزب.وفي العمق، فإن انحطاط أفكار محمد سبيلا ترتبط عضويا بالانحطاط السياسي والأخلاقي الذي سقط فيه "حزب الاتحاد الاشتراكي"، رغم أن محمد سبيلا ابتعد عن هذا الحزب منذ سنوات.وفي الختام، لنحاول توسيع تفكيرنا. إذا نحن أنهينا هذا المقال عند هذه النقطة، فإننا سنكون قد "ظلمنا" السيد محمد سبيلا. و"الظلم" مرفوض، لأنه يتنافى مع "الأخلاق"، حتّى ولو كانت المساطر "القانونية" القائمة لا تجرّم هذا "الظلم". فإذا أنهينا هذا المقال هنا، فإننا سَنُعطي للقارئ انطباعًا خاطئًا بأن كل شيء في بلاد المغرب هو على أحسن ما يُرام، وأن المشكل الأساسي في المغرب هو أن شخصا اسمه محمد سبيلا قال: «المَكْر، وسُوء النِّيَة، والكذب ... [ضروريِّين] في العمل السياسي». لكن الحقيقة هي أن محمد سبيلا ليس حاكمًا، ولا وزيرًا، ولا مسؤولا كبيرا في الدولة، ولا منتخبا في البرلمان أو في المجالس المحلّية، ولا فاعلًا اقتصاديا هامًّا، ولا زعيمًا حزبيًّا. وإنما محمد سبيلا هو مجرد مواطن متواضع، يدرّس الفلسفة، ويتكلّم، ويخطب، ويكتب، وينشر. لكن محمد سبيلا لا يؤثّر لا في الحياة السياسية، ولا الاقتصادية. بل المشكل الأساسي في بلاد المغرب، هو أن معظم أفراد الطبقة الحاكمة، وكذلك أفراد الطبقة السياسية، ومعظم الفاعلين الاقتصاديين، ومعظم المسؤولين الحزبيين، معظمهم لا يتكلّمون، ولا يخطبون، ولا يكتبون، وإنما يمارسون يوميًا، في العَلَن أو في السِرِّ، يمارسون الكذب، والتحايل، والخداع، والغشّ، والنفاق، والتزوير، والنّهب، والفساد، والاستبداد. معظمهم يخرقون القانون، ويدوسون الأخلاق. هذا هو المشكل المجتمعي الحقيقي. ومأساتنا الكبيرة، هي أن غالبية شعبنا تسبح في الجهل، والتخلّف، والخضوع، والانحطاط. بل تُمارس غالبية أفراد شعبنا الأنانية، والغش، والانتهازية، في مجمل الميادين. لكن هذا موضوع آخر (حَلَّلْتُه في كتابي "نقد الشعب"). وواجبنا، ليس هو الانشغال بمواطن بسيط مثل محمد سبيلا، وإنما هو نـقد هؤلاء الأشخاص السائدين في المجتمع، وفضحهم، ومحاسبتهم. فمحمد سبيلا يتكلّم ولا يؤثّر، بينما أفراد الطبقات السائدة والمُسْتَغِلَّة، المستبدِّين والفاسدين، يُؤَثِّرُون، ويقرّرون، ويحدّدون مصيرنا، مصير الخضوع، والاستبداد، والاستغلال، والتّفـقير، والتخلُّف، والألم، والانحطاط المجتمعي. فالمشكل الهام يوجد هنا، وليس في محمد سبيلا. وبه نختم هذا المقال.رحمان النوضة (22 غشت 2018)



اقرأ أيضاً
محمد بنطلحة الدكالي يكتب: الروح الرياضية بالجزائر…داء العطب قديم
أمام الانتصارات المتتالية للدبلوماسية المغربية والنكسات والهزائم لجيران السوء،يبدو أن دولة العالم الآخر باتت تعيش أعراض الهلوسة والخرف،وهو داء عطب قديم إسمه" المروك". من بين الذكريات التي يتغنى بها حفدة الشهداء،واقعة كروية حدثت وقائعها في9 دجنبر1979 بين المغرب والجزائر،انتهت بفوزهم كما هو معلوم...ومنذ ذلك الحين والأبواق الإعلامية تكتب عن هذا" النصر" العظيم الذي مضت عليه46 سنة. ولأن مرض الهلوسة تزداد تهيؤاته بازدياد حدته،يبدو أن الكراغلة باتوا منذ الآن يترقبون مقابلة شباب قسنطينة أمام نهضة بركان المغربي. تطالعنا اليوم جريدة الشروق بمقال يحمل عنوان:" الرئيس تبون يحرص على مرافقة السياسي ودعمه في مواجهته ضد نهضة بركان المغربي"...! لقد أكد المقال أن زعيم الكراغلة سيتكفل بكامل مصاريف تنقل وإقامة ممثل الكرة الجزائرية في المغرب،علما أن وزير الشباب والرياضة،وليد صادي،وخلال حضوره مأدبة العشاء التي أقامها والي الولاية صيودة،كان قد نقل للنادي القسنطيني إدارة ولاعبين دعم رئيس الجمهورية ومساندته المطلقة للفريق في مواجهته أمام نهضة بركان...ومن ثمة ضمان تنشيط النهائي الإفريقي القادم ودخول التاريخ من بابه الواسع...! سبحان الله معشر الكراغلة،دخول التاريخ،شافاكم الله،يكون عبر الاختراعات والإنجازات،وتوفير لتر حليب وكسرة خبز لكل جائع،وذلك أضعف الإيمان. دخول التاريخ يكون عبر التلاحم والتآزر،لأننا دم واحد وتاريخ مشترك. أما وأنتم تشحنون المدرب خير الدين ماضوي وكأنه متوجه إلى ساحة الحرب،وتأمرون اللاعبين بوقرة ومداحي وكأنهما قائدا فريق مشاة...! إسمحوا لي أن أعترف،أني بت أشفق عليكم،وأدعو الله أن يتدبر أمر الحرارة المفرطةالتي تسكنكم. ونحن ندعو لكم بالشفاء معشر الكراغلة،نذكركم أنه وطوال التاريخ،ومنذ الحضارة الإغريقية التي عرفت ألعاب أثينا،ظلت الرياضة عنوانا للفرجة والتآخي والتعارف بين الشعوب لما تمثله من قيم إنسانية نبيلة،إنها تنشر السلام وتشجع على التسامح والاحترام وسمو الأخلاق،والرياضة بمعناها الصحيح ترفض أن تكون وسيلة لغاية أخرى لأنها منبع القيم السامية المثلى حين تنتصر الروح الرياضية. إننا نشفق عليكم،ونرثي لحالكم حين تعتبرون انتصارا صغيرا في كرة القدم عن طريق ضربات الحظ،عيدا وطنيا وملحمة بطولية،محاولين تهدئة الشارع الذي يعرف حراكا شعبيا. لقد ضاق الشعب الجزائري الشقيق درعا من ضيق العيش ومحنة الطوابير والرعب اليومي الجاثم على النفوس... الرياضة أخلاق وسمو إنساني نبيل...حاولوا أن تستفيقوا من غيكم،رغم أن داء العطب قديم... محمد بنطلحة الدكالي
ساحة

صرخة من قلب المهنة: الفوضى تُهين الإرشاد السياحي بمراكش
في سياق التحديات التي تعصف بمهنة الإرشاد السياحي في مراكش، يعرض هذا المقال وجهة نظر عدد من المرشدين السياحيين الذين يعانون من تدهور أوضاعهم المهنية بسبب ظواهر التسيب والتنظيم غير القانوني داخل القطاع. ومن المهم التنويه إلى أن ما يطرحه هذا المقال يعكس آراء مجموعة من المهنيين الذين يواجهون هذه التحديات بشكل يومي، وهذا نص المقال: "الانتسابات غير القانونية، المنافسة الفوضوية، وتواطؤ الصمت... من يُنقذ كرامة المرشدين؟ الوضع لم يعد يحتمل. مهنة الإرشاد السياحي، التي لطالما كانت واجهة حضارية للمغرب، تتعرض اليوم في مراكش لتشويه ممنهج، وسط تراخٍ واضح من السلطات المحلية والمركزية، وصمت مريب من الهيئات المهنية والتنظيمية. منذ سنوات، والمرشدون النظاميون يرفعون الصوت في وجه ظاهرة تتفشى في الخفاء: مرشدون غير مُعيّنين في المدينة يحصلون على انتساب غير قانوني داخل جمعية مهنية محلية، ويزاولون عملهم بشكل حرّ، ضاربين عرض الحائط بقوانين التعيين والتنظيم. القانون يُنتَهك والمهنة تنهار ما يجري ليس فقط خرقًا إداريًا، بل تقويض لمبادئ العدالة المهنية. المرشدون غير المعينين في مراكش يتعللون بأن القانون يمنحهم هذا الحق، مستندين إلى تأويلات شخصية تخدم مصالحهم، دون اعتبار للواقع القانوني أو الإداري، في وقت يُقصى فيه المرشدون الملتزمون ويُجبرون على تقبل التهميش. كرامة المرشد تُباع في سوق الأسعار تدهور آخر يسجله المهنيون يتمثل في اشتعال حرب أسعار مدمرة، حيث يعمد بعض المرشدين إلى خفض تسعيرتهم بشكل مبالغ فيه، ما يؤدي إلى ضرب جودة الخدمات في العمق، والإضرار بسمعة المدينة لدى السياح. "عندما يتحول المرشد إلى بائع خدمة رخيصة، فإن التفاعل، والمعلومة، والاحترافية تكون أولى الضحايا"، يقول أحد المرشدين المحليين. جمعيات متهمة... وسلطات غائبة عدد من الأصوات داخل القطاع تتهم بعض الجمعيات بالتواطؤ، حيث تُمنح بطاقات الانتساب بشكل غير قانوني، وأحيانًا مقابل مبالغ مالية، دون احترام لشروط التعيين الترابي ولا ضوابط المزاولة. المرشدون يطالبون اليوم بتحقيق رسمي في هذه الانتسابات، ومساءلة الجهات التي تغضّ الطرف عن هذه الفوضى، والتي تهدد المهنة من الداخل. السياحة تتطور... والمهنة تتآكل في وقت تتغير فيه تطلعات السياح نحو تجارب غنية، وتفاعلية، ومستدامة، يواجه المرشدون الملتزمون خطر الإقصاء على يد فوضى تنظيمية تُفرّغ المهنة من معناها وقيمتها الثقافية. المرشدون يطالبون بالتحرك... الآن! دعوات متصاعدة لإيقاف النزيف: فتح تحقيق عاجل في الانتسابات العشوائية؛ توقيف غير الملتزمين بالتعيين الرسمي؛ إصلاح جذري لهياكل الجمعيات المهنية؛ وتدخل فعلي لوزارة السياحة وولاية الجهة قبل فوات الأوان."
ساحة

“الحق المهني المسلوب”: من يُسكت صوت المرشدين السياحيين؟
في قطاع يُعدّ من الركائز الأساسية للاقتصاد المحلي والوطني، يجد مئات المرشدين السياحيين بجهة مراكش-آسفي أنفسهم في مواجهة تحديات مهنية وإدارية متزايدة. وسط غياب آليات فعالة لحماية حقوقهم، تتعالى أصواتهم مطالبة بالإصلاح، لكن هل من مجيب؟ هذا المقال يعكس انشغالات مجموعة من المهنيين الذين يرون أن الممارسات التنظيمية الحالية تُقصيهم بدل أن تدمجهم، ويطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل المهنة، وهذا نص المقال:"في قلب القطاع السياحي بمراكش-آسفي، يعيش مئات المرشدين حالة من التهميش الممنهج، في ظل تراكم ممارسات إدارية وتنظيمية غير متوازنة، وغياب الآليات الفعالة التي تضمن العدالة المهنية. الوضع الحالي يفرض علينا طرح أسئلة جريئة: من يُراقب؟ من يُحاسب؟ ومن يُنصف من لا صوت له؟جمعية في وضعية مخالفة... بلا محاسبةللسنة الثالثة على التوالي، لم تعقد الجمعية الجهوية للمرشدين السياحيين أي جمع عام، ولم تُعرض أي تقارير مالية أو أدبية، ومع ذلك تواصل تحصيل واجبات الانخراط، وتسليم الشهادات وكأن شيئاً لم يكن.أين دور المراقبة؟ من يتحمل مسؤولية تفعيل آليات الشفافية الداخلية؟ أليس استمرار هذا الوضع يمثل خرقاً لمبادئ الحكامة المهنية؟التكوين الرقمي: برنامج غير منصف لفئة واسعةفرض شهادة التكوين الرقمي ضمن وثائق تجديد الاعتماد جاء بهدف التأهيل، لكنه لم يُرفق، حسب عدد من المهنيين، بآليات واقعية لضمان مشاركة حقيقية ومتساوية، مما خلق شعوراً بالإقصاء لدى شريحة واسعة من المرشدين:مشاركات شكلية أو بالنيابة.غياب دعم فعلي للفئات غير المتمكنة من التكنولوجيا.شهادة تُمنح دون تأكيد فعلي لاكتساب المهارات.النتيجة؟ تكوين تحوّل إلى عبء إداري لا يراعي خصوصية الميدان.تجديد الرخصة: منطق الورق أم منطق الكفاءة؟المرشدون يقدمون ملفاتهم كاملة، لكن العديد منهم يُدرك أن ما يُطلب ليس بالضرورة انعكاساً حقيقياً للخبرة أو القدرة. شهادات انخراط صادرة عن جمعيات غير مفعلة تنظيمياً، وشهادات تكوين دون مضمون فعلي، فهل هذه مؤشرات تأهيل حقيقية؟ أم مجرد إجراء شكلي؟الشهادة الطبية: سؤال حول العدالة المهنيةيشكل شرط الشهادة الطبية عائقاً أمام عدد من المرشدين الذين يعانون من أمراض مزمنة أو حالات صحية مؤقتة. فهل العجز المؤقت أو الإعاقة الخفيفة تعني بالضرورة عدم الأهلية؟ وهل من العدل أن يُقصى شخص فقط لأنه يخضع لعلاج منتظم أو يعيش مع إعاقة بسيطة لا تمنعه من أداء مهامه؟الضمان الاجتماعي: بين التعقيد والإجحافيعاني عدد من المرشدين السياحيين من صعوبات متزايدة في تسوية وضعيتهم مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، في ظل غياب مواكبة فعلية تأخذ بعين الاعتبار طبيعة عملهم المستقل وغير المنتظم. ومن أبرز الإشكالات المطروحة:تعقيد مساطر الانتظام وتسديد المستحقات القديمة.تراكم مبالغ يصعب سدادها دفعة واحدة.وجود اقتطاعات بنكية غير دقيقة في بعض الحالات.تعرض المرشدين مزدوجي الجنسية لأداء مزدوج للواجبات دون تنسيق واضح بين الدول.هذا الوضع يُفاقم الهشاشة الاجتماعية للمرشدين، ويُفرغ التغطية الاجتماعية من مضمونها، ويُرسخ الإقصاء بدل الإدماج.مطالب مهنية ملحةافتحاص إداري ومالي للجمعية الجهوية ضماناً للشفافية.مراجعة آليات استخراج شهادات التكوين والانخراط.تيسير شروط الشهادة الطبية بشكل إنساني وعادل.فتح حوار مهني موسع لتصحيح المسار التنظيمي دون توتر أو صدام.رسالة مفتوحة لكل ضمير مهنيهذا المقال ليس مجرد وصف لاختلالات مهنية، بل هو نداء صادق يلامس كرامة كل مرشد سياحي. لسنا بصدد مطالب تعجيزية، بل نطالب فقط بما يضمن الاستمرارية في العمل بكرامة: تنظيم شفاف، تمثيلية شرعية، تكوين فعلي، وحماية اجتماعية عادلة.لقد طال الصمت، وكثُر التغاضي، وحان الوقت لنُعيد للمهنة صوتها ومكانتها. صوت المرشد ليس هامشيًا... إنه صوت الثقافة، والتاريخ، والانتماء."
ساحة

يونس مجاهد يكتب: مصداقية الخبر وطُعم النقرات
موضوع مصداقية الأخبار ليست جديدا في ثقافتنا، بل إنه متجذر فيها، وهناك مرجعيات كثيرة تحيلنا على الأهمية القصوى التي أوليت للفرق بين الخبر الصادق والخبر الكاذب في تراثنا، و لا أدل على ذلك من الآية الكريمة " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ". فالعودة لهذه المرجعيات سيكون مفيدا في مقاومة المد الجارف للتضليل والأخبار الملفقة والإثارة الرخيصة، التي يسعى تجار شبكات التواصل الاجتماعي إلى جعلها وسيلة للتشهير والإساءة، ومصدر اغتناء، غير عابئين بالقيم النبيلة التي من المفترض أن نتقاسمها كمجتمع. إن العودة إلى مرجعيتنا الحضارية والثقافية كفيل بأن يساهم إلى حد كبير في توفير وسائل وأدوات مقاومة الإتجار الرخيص في حرية التعبير، ففي مقدمة ابن خلدون التي أسست لعلم العمران البشري، هناك تدقيق مذهل لضرورة التمحيص في الأخبار، حيث يقول إنه من الضروري التمحيص والنظر في الخبر، حتى يتبين صدقه من كذبه، لأن الابتعاد عن الانتقاد والتمحيص يقع في قبول الكذب ونقله. ويضيف أن من الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار، أيضا، الثقة بالناقلين، وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. ومنها الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه، فيقع في الكذب. إن ابن خلدون، الذي سبق عصره، يتحدث هنا عن مصادر الأخبار، التي يعتبر أنه من غير الممكن تصديق ما تنقله بدون إعمال العقل النقدي. وهو من صميم العمل الصحافي، حيث أن التأكد من مصادر الأخبار ومدى مصداقيتها، هو جوهر المهنة، وهو أيضا ما يدرس اليوم في التربية على الإعلام، إذ أن أهم مبدأ يوصى به هو عدم تصديق أي "خبر"، إلا بعد التأكد من المصادر، أولا، ثم التمحيص والنظر في هذا الخبر، كما يقول ابن خلدون، ثانيا، لغربلته وإخضاعه للعقل والمنطق. وفي هذا الإطار، تؤكد التجربة، أنه لا يمكن للمجتمعات أن تستغني عن الصحافة المهنية، في تداول الأخبار، لأنها تكون صادرة عن صحافيين محترفين، يتوفرون على تكوين وخبرة ومستوى علمي، والأهم من ذلك، أنهم يشتغلون في بيئة صحافية، أي ضمن هيئة تحرير وميثاق أخلاقيات وقواعد العمل الصحافي. ولا يمكن لشبكات التواصل الاجتماعي أوما يسمي ب"المؤثرين"، أن تعوض العمل الصحافي الاحترافي، بحجة أنها "صحافة مستقلة"، فليس هناك إلا صحافة واحدة، إما أن تكون احترافية موضوعية وذات مصداقية، تعمل طبقا لأساسيات مهنة الصحافة وتقاليدها، أو لا تكون. الصحافي الحقيقي، كالمؤرخ، يقول عبد الله العروي، في كتابه "مفهوم التاريخ"، إذ يعتبر أن العديد من الملاحظين يشبهون الصحافي بالمؤرخ، فيقال إن الأول مؤرخ اللحظة، بينما الثاني صحافي الماضي، كلاهما يعتمد على مخبر، وكلاهما يؤول الخبر ليعطيه معنى، الفرق بينهما هو المهلة المخولة لكل واحد منهما، إذا ضاقت تحول المؤرخ إلى صحافي، وإذا عاد الصحافي إلى الأخبار وتأملها بعد مدة تحول إلى مؤرخ، أما إشكالية الموضوعية وحدود "إدراك الواقع كما حدث"، فهي واحدة بالنسبة لهما معا. والمقصود هنا، حسب العروي، هو أن كلا من الصحافي والمؤرخ، عليهما تحري الدقة في الأخبار والحوادث المنقولة، واعتماد المصادر الموثوقة، مثل التغطية الميدانية وشهود العيان أو معايشة الأحداث، بالإضافة إلى الوثائق والآثار الدالة على ما حصل... هذه هي الصحافة المستقلة، عن التلفيق والكذب والإثارة المجانية واستجداء عدد النقرات. ويعتبر اليوم "طُعم النقرات "clickbait، من الآفات الكبرى التي أصابت الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبح العديد ممن يسعون إلى تحقيق الأرباح، بأية وسيلة، اللجوء إلى تشويه الحقيقة وتقويض القيم الصحفية التقليدية، مثل الدقة والموضوعية والشفافية، همهم الوحيد هو الدخول في مهاترات وجدل عقيم، و اعتماد عناوين مثيرة، و كتابة أو بث كل ما يمكن أن يثير الفضول بدون معنى أو محتوى و بدون مصدر موثوق، كتاباتهم أو احاديثهم تتضمن تناقضات كثيرة، لكن كل ذلك يهون، بالنسبة لهم، أمام ما يمكن أن يحققونه من مداخيل. لذلك رفعت العديد من التنظيمات الصحافية في تجارب دولية، شعار؛ "لا تنقر"، أي تجنب طُعم الإثارة التجارية الرخيصة، التي تشوه الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي.
ساحة

التعليقات مغلقة لهذا المنشور

الطقس

°
°

أوقات الصلاة

الثلاثاء 22 أبريل 2025
الصبح
الظهر
العصر
المغرب
العشاء

صيدليات الحراسة