خواطر صحفي مغربي عايش انفجار بيروت – Kech24: Morocco News – كِشـ24 : جريدة إلكترونية مغربية
الأربعاء 23 أبريل 2025, 02:28

ساحة

خواطر صحفي مغربي عايش انفجار بيروت


كشـ24 نشر في: 21 أغسطس 2020

لم أفلح منذ يوم "كارثة بيروت" حتى الآن، في لملمة واستجماع ما تشتت وتشظى في داخلي من أشلاء ومزق، تناثرت وتكورت في كريات دمي، ذابت في دورتي الدموية ذوبان الدم الفاسد وتجلطه في شرايين موتى محنطين ومنسيين في التاريخ غير المدون.لم أعُد أميز بين أفعال الماضي وأفعال الآتي، كلها تحضر ناتئة متورمة في قواميس الدمار، تتخشب تحت الألسن وتتشظى فعلا واحدا تحت سطوة الخراب والقتل والضياع والفقدان.

**

ربما اللغة العربية، أو سواها من لغات البشر الإنسان، لا تحتمل توصيفا دقيقا لما جرى وحدث ونزل ودوّى ثم انفجر ودمّر وخرّب وروّع وقتل، فسوّى كارثة عظمى.يبقى فعل الكارثة حاضرا ناقصا. ما حدث تتبرأ منه اللغة. تنكره الطبيعة. ليس زلزالا ولا فيضانا ولا إعصارا. فعل حاضر يمضي ناقصا لا يقوى على تشريح المعنى. لا يحتمل تجنيده لدى ميليشيات “كان وأخواتها”. هو جُمَلَةٌ لا إسمية ولا فعلية. لا فِعْلَ فيها ولا اسم لها. جملةٌ كشفت سر كل الأفعال والأسماء في أقل من ثانية. وسط دخانها الطاعن في الهواء والسماء يحاول الفاعل التخفي والتستر، كأنه يقول: ها أنا ذا خذوني.من يجرؤ على الاقتراب منه والإشارة إلى قمقمه وتسميته، يعميه الدخان. يحرقه الدخان. يشنقه خيط دخان.هو الدخان فقط، فما بالك.لكن من أنتم؟ من أنتم؟ تقذف بكم لغة المقبور وتهدد موتكم بموت أشد مكرا وموتا.“أيها الطاعنون في الموت.. في الموت”. أيُها القادمُون من منافي الطوائف ومن لغات الأزل والتغزل بحياة الوطن بالأناشيد وبالقوافي.أدخلوا صدوركم وتعلموا البكاء. أحزان جديدة تنتظركم. فلتحتموا بسر النشيد. وانسجوا المراثي المطرزة بالذهب لمواكب الضحايا القادمين.ولكم بعضٌ من الوقتِ لكي ترددوا أذان الله أكبر بنشيد الموتى، وتغنوا مع فيروز “سلاما لبيروت”، ولتكفوا مع نزار قباني وماجدة الرومي عن حث بيروت أن تقوم من تحت الردم.. لأنكم أنت بيروت وأنتم من تحت الردم! فمتى موعد القيامة؟

**

كان يوما قائظا من أيام بيروت الصيفية. يوم مشبع بالرطوبة والتلوث العالي بدرجات لا تقاس إلا بتلوث نخبة سياسية وطائفية مهيمنة.قبل لحظة الانفجار، كان يتردد في النزول إلى بحر بيروت، قال لقرينه: لعلك تتمشى قليلا على رصيف الشاطئ فينقص بعض وزنك، المشي والهرولة يعوضان التدريب الرياضي في القاعات المكيفة. أنظر إلى بطنك زادته قلة الحركة، وزاده المكوث في البيت احترازا من “كوفيد 19″، انتفاخا.لكنه قيظ الصيف. ويغلب الكسل لينهي التردد.أتمدد على الأريكة، أفتح شاشة التلفزيون، أتلهى بالتنقل ما بين الفضائيات المتناسلة بلا حد.لا شيء يعجبني. أفكر في فتح كتاب.واقفا أمام خزانة الكتب أبحث عما يناسب حالتي ومزاجي الصيفي. عناوين كثيرة قرأتها وأخرى تنتظر، يشدني الحنين لتلك التي أحببتها. رواية للبيروفي ماريو بارغاس يوسا بعنوان: “دفاتر دون ريغو بيرتو”، من ترجمة الراحل صالح علماني، ونشرها “دار الفارابي” في بيروت. رواية يمزج كاتبها السياسة بالعبث، ويحبكها بسرد مشوق يحاكي الأدب البوليسي، فيروي لنا عن الثورة والارتداد اليساري. رواية تمتلئ بالخيال وتستدرج قارئها بإبداع ساحر كي ينهي صفحاتها التي تربو على الأربعمائة صفحة (بأحرف صغيرة). قصة رجل مرهف الإحساس وإنساني، لكنه يبدو سخيفا بعض الشيء. هو من منح اسمه الكامل للرواية.ابتسمت. جال بخاطري لعلي أكون أتقاسم مع ريغو بيرتو الإنسانية والسخافة.ما أسخف الإنسان! ما أخسره!

**

تنقطع الكهرباء، ويتأخر تشغيل المولد. كأني قلت “شربت كوب ماء”، أو “دخنت سيجارة”. لا شيء يدهش هنا. بل المدهش حد الإثارة الكبرى هو اشتغال الكهرباء طيلة ساعات اليوم الأربع والعشرين من دون انقطاع. الكهرباء معضلة تهدد لبنان الأنوار بالظلام وبالعتمة.

**

وأنا في حالة تشبه انتظارا كذاك الذي صاغه بعبث جاد الكاتب الإيرلندي صمويل بيكيث، سأحس بالبناية كأنها تمايلت، وربما اهتزت. كأنه زلزال. ارتطمت النوافذ والأبواب واهتزت الأرفف، وسمعت ضجة قوية. تسارع الجيران للإطلال من الشرفات والنوافذ. تحمل وجوههم نظرات تزدحم بالأسئلة والفزع وتغوص عميقا في مرأى الهشاشة.سيتحدث البعض عن خرق لجدار الصوت. هذا أمر بات سخيفا، فإسرائيل تعودت على استباحة سماء لبنان وقتما خطر لطائراتها العسكرية ذلك.لم تمض دقائق حتى وصل الخبر ممن لم نزود. وصلت مكالمات هاتفية، وتنافست فيديوهات وصور عبر الأنترنت والواتساب على شرح ما جرى وما حدث. “الزلزال” و”خرق جدار الصوت” لهما اسم آخر. انفجار في مرفأ بيروت. هيروشيما جديدة أطلت.ألكل قرن قنبلته النووية في انتظار ساعة الفناء العظيم؟

**

بدأت القصص تتوالى. قصة انفجار بآلاف القصص والروايات وبآلاف المآسي. أكثر من عدد القتلى والضحايا والمفقودين. ولكل شهيد ما شاء من القصص والحكايات. من قصة علي مشيك حمال في المرفأ، أنهى عمله اليومي الشاق ثم عاد مسرعا إلى شقاوته من أجل خمسة آلاف ليرة. بسعر الدولار الجديد أقل من دولار، وبسعره القديم دولارين ونصف. ربطة خبز. كأن الكاتب الأمريكي بول بولز، وهو في غرب المتوسط كان يعني شرقه، لما نقل رواية المغربي محمد شكري كان يعلم. لذلك أصدر طبعتها الأمريكية بعنوان: “من أجل الخبز وحده”.وإلى قصة ألكسندرا نجار، الطفلة ذات الثلاث سنوات ونصف. وكأن الانفجار يميز بين صغير وكبير. كانت ألكسندرا من ضمن أصغر المشاركين في “ثورة 17 تشرين” تحمل العلم وترتقي فوق كتفي والدها، فتفردت بالخبر لتصبح أصغر شهداء انفجار مرفأ بيروت وارتقت بعيدا صوب السماوات والعلى.

**

شكر البعض المسافات، كانوا بعيدين لحظة الانفجار. هي التي أنجتهم وأبقتهم أحياء، لكن قريبين في أتون المأساة ووسط تداعيات الكارثة.هاتفت صديقي سفير المغرب الدكتور محمد غرين، طمأنني، وحكى لي قصة نجاته بأعجوبة. وكان قريبا من مكان الفاجعة الكارثية بالأشرفية.

**

في اليوم الثاني خرجت أتفقد الخراب الذي ضرب الميناء والأحياء القريبة. هزني هول الدمار الهائل. واستعادت أوصالي صوت الدوي العظيم.التقيت بمجموعة من الشابات والشبان يحملون المكانس والرفوش، وقد هرعوا لمسح أثر الاعتداء على مدينتهم الجميلة، متطوعين لإزالة الردم الذي طال الأحياء المتضررة. تبادلت كلمات التحية والتضامن مع بعضهم، فتحلقوا حولي لالتقاط صورة بعدما علموا بكوني من المغرب.كم مرة أبكاني مشهد المرأة التائهة أمام الكاميرات تسأل عن ابنها.. “شفتُو لي ابني.. وينك يا ماما.. ابني حلو ومَنيِح وعيونو عسلية.. وكان عندي مدلل مغنج. حدا شافوا”. قلب هذه الأم المكلومة يعلم كقلوب الأمهات. لكنها لم ترد تصديق الخبر الأليمفي أسبوع الكارثة، نزلتُ مع اللبنانيين الباكين الغاضبين المجروحين المكلومين.. ولهم كل أسماء الثورة الحسنى. اجتمعوا قرب المرفأ، عند نصب المغترب اللبناني. وكثيرون يفكرون في الهرب والهجرة. قرأوا النشيد جماعة وهتفوا بأسماء الشهداء، وشجعوا مع ماجدة مدينتهم على الانبعاث من جديد كما عودتهم: “يا بيروت.. قومي من تحت الردم كزهرة لوز في نيسان”.ثم مشوا في مسيرة حاشدة وبالأيادي شموع الشهداء.. غايتهم ساحة الشهداء. شهداء في مواكب الشهداء.ظلت أشلائي صارخة كزجاج جارح يمزق دواخلي ويذبح.كم مرة أبكاني مشهد المرأة التائهة أمام الكاميرات تسأل عن ابنها.. “شفتُو لي ابني.. وينك يا ماما.. ابني حلو ومَنيِح وعيونو عسلية.. وكان عندي مدلل مغنج. حدا شافوا”.قلب هذه الأم المكلومة يعلم كقلوب الأمهات. لكنها لم ترد تصديق الخبر الأليم.كان ابنها حمد العطار من عمال مرفأ بيروت، ثم أصبح في قوائم المفقودين قبل العثور على جثمانه تحت الركام.اعتقدت أنها تختصر كل مآسي الكارثة لكن كل مأساة تنسيك أختها. فكم من البكاء. كم من الألم. كم من الدم.

**

في الليلة نفسها، اتصل بي الأهل من الدار البيضاء، وتواصلت مع الأصدقاء في جل مدن المغرب، ومع الأهل والأصدقاء في الدياسبورا بالمنافي الباردة. يطمئنون علي، يسألونني عن تفاصيل القيامة اللبنانية التي لم يذكرها مراسلو التلفزيونات والإذاعات، ينصحني بعضهم بالهروب وبالتعجيل بالعودة.وضعت اسمي ضمن أسماء الناجين في الصفحة الخاصة التي فتحتها خدمة الفيس بوك. تذكرت نفس الخدمة في انفجار 11 سبتمبر وكوارث إنسانية غيرها.هي الحرب تتواصل بشكل آخر وبأسلحة أخرى، أشد فتكا وإبادة. نترات الأمونيوم واحدة منها، والسياسات المذهبية الطائفية المافيوزية من أساليبها وأصابع يدها المغلولة المجتمعة حول الزر والزناد.هي قصة من يحكم لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية التي تحولت إلى حرب متحدة ومقدسة ضد كل الشعب بجميع طبقاته وفئاته وشرائحه وطوائفه.

**

كل يوم افتح فيه عيني أمارس الحداد على الموتى. أتضامن مع الضحايا، وأبكي مع الباكين. وكل منهم لا يبكون مثل أخيه أو ابنه أو عزيزه. وأحيانا أبكي لوحدي وما يبكون مثل “وحدي”. أرفض أن يكون مثل هذا العذاب موجودا على الأرض، فماذا تركوا لعذابات الجحيم وجهنم الموعودة للكافرين. وما حدث أفظع من كل نيران الجحيم.

**

في الهاتف، يلح صديق عليّ أن أعود إلى المغرب. أراه في كاميرا الواتساب حليق الرأس، يقترح علي العودة من الحدود البرية. أذكره إني في بلد يطوقه الماء والحروب والأعداء ولا مفر. لا يريد أن يسمعني. يواصل: تعالى من أبو ظبي عبر باريس. كأنه لم يسمع أن من بات هناك وغلق الأبواب.. وهيت لك.ينقطع الاتصال الهاتفي. أتساءل وحدي، من قال إني أرغب في الهرب؟

**

في الأسطر الأخيرة من صفحة النهاية في رواية ماريو بارغاس يوسا، أقرأ:“في الحقيقة لا أعرف كيف يبدو لي الأمر يا ريغو بيرتو. من المؤكد أنه ليس مضحكا. أهو مبك؟ أمر يدعو إلى الغضب؟ حسن، فلنغضب إذا كان هذا هو ما علينا عمله. أهذا ما ستفعله غدا؟ هز ريغو بيرتو كتفيه. وكانت به رغبة إلى الضحك أيضا. وأحس بأنه أخرق”.أنا أيضا مثل ريغو بيرتو أحس بالسخافة وبالضياع ولا أفهم ما علي عمله غدا.لكني في بيروت، مع بيروت ووسط أهل بيروت.أبكي وأضحك.لا حزنا ولا فرحا.كشاهد خطّته أسطر يوميات القيامة.. فانْمَحى. بقلم: عبد الرحيم التوراني
لم أفلح منذ يوم "كارثة بيروت" حتى الآن، في لملمة واستجماع ما تشتت وتشظى في داخلي من أشلاء ومزق، تناثرت وتكورت في كريات دمي، ذابت في دورتي الدموية ذوبان الدم الفاسد وتجلطه في شرايين موتى محنطين ومنسيين في التاريخ غير المدون.لم أعُد أميز بين أفعال الماضي وأفعال الآتي، كلها تحضر ناتئة متورمة في قواميس الدمار، تتخشب تحت الألسن وتتشظى فعلا واحدا تحت سطوة الخراب والقتل والضياع والفقدان.

**

ربما اللغة العربية، أو سواها من لغات البشر الإنسان، لا تحتمل توصيفا دقيقا لما جرى وحدث ونزل ودوّى ثم انفجر ودمّر وخرّب وروّع وقتل، فسوّى كارثة عظمى.يبقى فعل الكارثة حاضرا ناقصا. ما حدث تتبرأ منه اللغة. تنكره الطبيعة. ليس زلزالا ولا فيضانا ولا إعصارا. فعل حاضر يمضي ناقصا لا يقوى على تشريح المعنى. لا يحتمل تجنيده لدى ميليشيات “كان وأخواتها”. هو جُمَلَةٌ لا إسمية ولا فعلية. لا فِعْلَ فيها ولا اسم لها. جملةٌ كشفت سر كل الأفعال والأسماء في أقل من ثانية. وسط دخانها الطاعن في الهواء والسماء يحاول الفاعل التخفي والتستر، كأنه يقول: ها أنا ذا خذوني.من يجرؤ على الاقتراب منه والإشارة إلى قمقمه وتسميته، يعميه الدخان. يحرقه الدخان. يشنقه خيط دخان.هو الدخان فقط، فما بالك.لكن من أنتم؟ من أنتم؟ تقذف بكم لغة المقبور وتهدد موتكم بموت أشد مكرا وموتا.“أيها الطاعنون في الموت.. في الموت”. أيُها القادمُون من منافي الطوائف ومن لغات الأزل والتغزل بحياة الوطن بالأناشيد وبالقوافي.أدخلوا صدوركم وتعلموا البكاء. أحزان جديدة تنتظركم. فلتحتموا بسر النشيد. وانسجوا المراثي المطرزة بالذهب لمواكب الضحايا القادمين.ولكم بعضٌ من الوقتِ لكي ترددوا أذان الله أكبر بنشيد الموتى، وتغنوا مع فيروز “سلاما لبيروت”، ولتكفوا مع نزار قباني وماجدة الرومي عن حث بيروت أن تقوم من تحت الردم.. لأنكم أنت بيروت وأنتم من تحت الردم! فمتى موعد القيامة؟

**

كان يوما قائظا من أيام بيروت الصيفية. يوم مشبع بالرطوبة والتلوث العالي بدرجات لا تقاس إلا بتلوث نخبة سياسية وطائفية مهيمنة.قبل لحظة الانفجار، كان يتردد في النزول إلى بحر بيروت، قال لقرينه: لعلك تتمشى قليلا على رصيف الشاطئ فينقص بعض وزنك، المشي والهرولة يعوضان التدريب الرياضي في القاعات المكيفة. أنظر إلى بطنك زادته قلة الحركة، وزاده المكوث في البيت احترازا من “كوفيد 19″، انتفاخا.لكنه قيظ الصيف. ويغلب الكسل لينهي التردد.أتمدد على الأريكة، أفتح شاشة التلفزيون، أتلهى بالتنقل ما بين الفضائيات المتناسلة بلا حد.لا شيء يعجبني. أفكر في فتح كتاب.واقفا أمام خزانة الكتب أبحث عما يناسب حالتي ومزاجي الصيفي. عناوين كثيرة قرأتها وأخرى تنتظر، يشدني الحنين لتلك التي أحببتها. رواية للبيروفي ماريو بارغاس يوسا بعنوان: “دفاتر دون ريغو بيرتو”، من ترجمة الراحل صالح علماني، ونشرها “دار الفارابي” في بيروت. رواية يمزج كاتبها السياسة بالعبث، ويحبكها بسرد مشوق يحاكي الأدب البوليسي، فيروي لنا عن الثورة والارتداد اليساري. رواية تمتلئ بالخيال وتستدرج قارئها بإبداع ساحر كي ينهي صفحاتها التي تربو على الأربعمائة صفحة (بأحرف صغيرة). قصة رجل مرهف الإحساس وإنساني، لكنه يبدو سخيفا بعض الشيء. هو من منح اسمه الكامل للرواية.ابتسمت. جال بخاطري لعلي أكون أتقاسم مع ريغو بيرتو الإنسانية والسخافة.ما أسخف الإنسان! ما أخسره!

**

تنقطع الكهرباء، ويتأخر تشغيل المولد. كأني قلت “شربت كوب ماء”، أو “دخنت سيجارة”. لا شيء يدهش هنا. بل المدهش حد الإثارة الكبرى هو اشتغال الكهرباء طيلة ساعات اليوم الأربع والعشرين من دون انقطاع. الكهرباء معضلة تهدد لبنان الأنوار بالظلام وبالعتمة.

**

وأنا في حالة تشبه انتظارا كذاك الذي صاغه بعبث جاد الكاتب الإيرلندي صمويل بيكيث، سأحس بالبناية كأنها تمايلت، وربما اهتزت. كأنه زلزال. ارتطمت النوافذ والأبواب واهتزت الأرفف، وسمعت ضجة قوية. تسارع الجيران للإطلال من الشرفات والنوافذ. تحمل وجوههم نظرات تزدحم بالأسئلة والفزع وتغوص عميقا في مرأى الهشاشة.سيتحدث البعض عن خرق لجدار الصوت. هذا أمر بات سخيفا، فإسرائيل تعودت على استباحة سماء لبنان وقتما خطر لطائراتها العسكرية ذلك.لم تمض دقائق حتى وصل الخبر ممن لم نزود. وصلت مكالمات هاتفية، وتنافست فيديوهات وصور عبر الأنترنت والواتساب على شرح ما جرى وما حدث. “الزلزال” و”خرق جدار الصوت” لهما اسم آخر. انفجار في مرفأ بيروت. هيروشيما جديدة أطلت.ألكل قرن قنبلته النووية في انتظار ساعة الفناء العظيم؟

**

بدأت القصص تتوالى. قصة انفجار بآلاف القصص والروايات وبآلاف المآسي. أكثر من عدد القتلى والضحايا والمفقودين. ولكل شهيد ما شاء من القصص والحكايات. من قصة علي مشيك حمال في المرفأ، أنهى عمله اليومي الشاق ثم عاد مسرعا إلى شقاوته من أجل خمسة آلاف ليرة. بسعر الدولار الجديد أقل من دولار، وبسعره القديم دولارين ونصف. ربطة خبز. كأن الكاتب الأمريكي بول بولز، وهو في غرب المتوسط كان يعني شرقه، لما نقل رواية المغربي محمد شكري كان يعلم. لذلك أصدر طبعتها الأمريكية بعنوان: “من أجل الخبز وحده”.وإلى قصة ألكسندرا نجار، الطفلة ذات الثلاث سنوات ونصف. وكأن الانفجار يميز بين صغير وكبير. كانت ألكسندرا من ضمن أصغر المشاركين في “ثورة 17 تشرين” تحمل العلم وترتقي فوق كتفي والدها، فتفردت بالخبر لتصبح أصغر شهداء انفجار مرفأ بيروت وارتقت بعيدا صوب السماوات والعلى.

**

شكر البعض المسافات، كانوا بعيدين لحظة الانفجار. هي التي أنجتهم وأبقتهم أحياء، لكن قريبين في أتون المأساة ووسط تداعيات الكارثة.هاتفت صديقي سفير المغرب الدكتور محمد غرين، طمأنني، وحكى لي قصة نجاته بأعجوبة. وكان قريبا من مكان الفاجعة الكارثية بالأشرفية.

**

في اليوم الثاني خرجت أتفقد الخراب الذي ضرب الميناء والأحياء القريبة. هزني هول الدمار الهائل. واستعادت أوصالي صوت الدوي العظيم.التقيت بمجموعة من الشابات والشبان يحملون المكانس والرفوش، وقد هرعوا لمسح أثر الاعتداء على مدينتهم الجميلة، متطوعين لإزالة الردم الذي طال الأحياء المتضررة. تبادلت كلمات التحية والتضامن مع بعضهم، فتحلقوا حولي لالتقاط صورة بعدما علموا بكوني من المغرب.كم مرة أبكاني مشهد المرأة التائهة أمام الكاميرات تسأل عن ابنها.. “شفتُو لي ابني.. وينك يا ماما.. ابني حلو ومَنيِح وعيونو عسلية.. وكان عندي مدلل مغنج. حدا شافوا”. قلب هذه الأم المكلومة يعلم كقلوب الأمهات. لكنها لم ترد تصديق الخبر الأليمفي أسبوع الكارثة، نزلتُ مع اللبنانيين الباكين الغاضبين المجروحين المكلومين.. ولهم كل أسماء الثورة الحسنى. اجتمعوا قرب المرفأ، عند نصب المغترب اللبناني. وكثيرون يفكرون في الهرب والهجرة. قرأوا النشيد جماعة وهتفوا بأسماء الشهداء، وشجعوا مع ماجدة مدينتهم على الانبعاث من جديد كما عودتهم: “يا بيروت.. قومي من تحت الردم كزهرة لوز في نيسان”.ثم مشوا في مسيرة حاشدة وبالأيادي شموع الشهداء.. غايتهم ساحة الشهداء. شهداء في مواكب الشهداء.ظلت أشلائي صارخة كزجاج جارح يمزق دواخلي ويذبح.كم مرة أبكاني مشهد المرأة التائهة أمام الكاميرات تسأل عن ابنها.. “شفتُو لي ابني.. وينك يا ماما.. ابني حلو ومَنيِح وعيونو عسلية.. وكان عندي مدلل مغنج. حدا شافوا”.قلب هذه الأم المكلومة يعلم كقلوب الأمهات. لكنها لم ترد تصديق الخبر الأليم.كان ابنها حمد العطار من عمال مرفأ بيروت، ثم أصبح في قوائم المفقودين قبل العثور على جثمانه تحت الركام.اعتقدت أنها تختصر كل مآسي الكارثة لكن كل مأساة تنسيك أختها. فكم من البكاء. كم من الألم. كم من الدم.

**

في الليلة نفسها، اتصل بي الأهل من الدار البيضاء، وتواصلت مع الأصدقاء في جل مدن المغرب، ومع الأهل والأصدقاء في الدياسبورا بالمنافي الباردة. يطمئنون علي، يسألونني عن تفاصيل القيامة اللبنانية التي لم يذكرها مراسلو التلفزيونات والإذاعات، ينصحني بعضهم بالهروب وبالتعجيل بالعودة.وضعت اسمي ضمن أسماء الناجين في الصفحة الخاصة التي فتحتها خدمة الفيس بوك. تذكرت نفس الخدمة في انفجار 11 سبتمبر وكوارث إنسانية غيرها.هي الحرب تتواصل بشكل آخر وبأسلحة أخرى، أشد فتكا وإبادة. نترات الأمونيوم واحدة منها، والسياسات المذهبية الطائفية المافيوزية من أساليبها وأصابع يدها المغلولة المجتمعة حول الزر والزناد.هي قصة من يحكم لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية التي تحولت إلى حرب متحدة ومقدسة ضد كل الشعب بجميع طبقاته وفئاته وشرائحه وطوائفه.

**

كل يوم افتح فيه عيني أمارس الحداد على الموتى. أتضامن مع الضحايا، وأبكي مع الباكين. وكل منهم لا يبكون مثل أخيه أو ابنه أو عزيزه. وأحيانا أبكي لوحدي وما يبكون مثل “وحدي”. أرفض أن يكون مثل هذا العذاب موجودا على الأرض، فماذا تركوا لعذابات الجحيم وجهنم الموعودة للكافرين. وما حدث أفظع من كل نيران الجحيم.

**

في الهاتف، يلح صديق عليّ أن أعود إلى المغرب. أراه في كاميرا الواتساب حليق الرأس، يقترح علي العودة من الحدود البرية. أذكره إني في بلد يطوقه الماء والحروب والأعداء ولا مفر. لا يريد أن يسمعني. يواصل: تعالى من أبو ظبي عبر باريس. كأنه لم يسمع أن من بات هناك وغلق الأبواب.. وهيت لك.ينقطع الاتصال الهاتفي. أتساءل وحدي، من قال إني أرغب في الهرب؟

**

في الأسطر الأخيرة من صفحة النهاية في رواية ماريو بارغاس يوسا، أقرأ:“في الحقيقة لا أعرف كيف يبدو لي الأمر يا ريغو بيرتو. من المؤكد أنه ليس مضحكا. أهو مبك؟ أمر يدعو إلى الغضب؟ حسن، فلنغضب إذا كان هذا هو ما علينا عمله. أهذا ما ستفعله غدا؟ هز ريغو بيرتو كتفيه. وكانت به رغبة إلى الضحك أيضا. وأحس بأنه أخرق”.أنا أيضا مثل ريغو بيرتو أحس بالسخافة وبالضياع ولا أفهم ما علي عمله غدا.لكني في بيروت، مع بيروت ووسط أهل بيروت.أبكي وأضحك.لا حزنا ولا فرحا.كشاهد خطّته أسطر يوميات القيامة.. فانْمَحى. بقلم: عبد الرحيم التوراني


اقرأ أيضاً
محمد بنطلحة الدكالي يكتب: الروح الرياضية بالجزائر…داء العطب قديم
أمام الانتصارات المتتالية للدبلوماسية المغربية والنكسات والهزائم لجيران السوء،يبدو أن دولة العالم الآخر باتت تعيش أعراض الهلوسة والخرف،وهو داء عطب قديم إسمه" المروك". من بين الذكريات التي يتغنى بها حفدة الشهداء،واقعة كروية حدثت وقائعها في9 دجنبر1979 بين المغرب والجزائر،انتهت بفوزهم كما هو معلوم...ومنذ ذلك الحين والأبواق الإعلامية تكتب عن هذا" النصر" العظيم الذي مضت عليه46 سنة. ولأن مرض الهلوسة تزداد تهيؤاته بازدياد حدته،يبدو أن الكراغلة باتوا منذ الآن يترقبون مقابلة شباب قسنطينة أمام نهضة بركان المغربي. تطالعنا اليوم جريدة الشروق بمقال يحمل عنوان:" الرئيس تبون يحرص على مرافقة السياسي ودعمه في مواجهته ضد نهضة بركان المغربي"...! لقد أكد المقال أن زعيم الكراغلة سيتكفل بكامل مصاريف تنقل وإقامة ممثل الكرة الجزائرية في المغرب،علما أن وزير الشباب والرياضة،وليد صادي،وخلال حضوره مأدبة العشاء التي أقامها والي الولاية صيودة،كان قد نقل للنادي القسنطيني إدارة ولاعبين دعم رئيس الجمهورية ومساندته المطلقة للفريق في مواجهته أمام نهضة بركان...ومن ثمة ضمان تنشيط النهائي الإفريقي القادم ودخول التاريخ من بابه الواسع...! سبحان الله معشر الكراغلة،دخول التاريخ،شافاكم الله،يكون عبر الاختراعات والإنجازات،وتوفير لتر حليب وكسرة خبز لكل جائع،وذلك أضعف الإيمان. دخول التاريخ يكون عبر التلاحم والتآزر،لأننا دم واحد وتاريخ مشترك. أما وأنتم تشحنون المدرب خير الدين ماضوي وكأنه متوجه إلى ساحة الحرب،وتأمرون اللاعبين بوقرة ومداحي وكأنهما قائدا فريق مشاة...! إسمحوا لي أن أعترف،أني بت أشفق عليكم،وأدعو الله أن يتدبر أمر الحرارة المفرطةالتي تسكنكم. ونحن ندعو لكم بالشفاء معشر الكراغلة،نذكركم أنه وطوال التاريخ،ومنذ الحضارة الإغريقية التي عرفت ألعاب أثينا،ظلت الرياضة عنوانا للفرجة والتآخي والتعارف بين الشعوب لما تمثله من قيم إنسانية نبيلة،إنها تنشر السلام وتشجع على التسامح والاحترام وسمو الأخلاق،والرياضة بمعناها الصحيح ترفض أن تكون وسيلة لغاية أخرى لأنها منبع القيم السامية المثلى حين تنتصر الروح الرياضية. إننا نشفق عليكم،ونرثي لحالكم حين تعتبرون انتصارا صغيرا في كرة القدم عن طريق ضربات الحظ،عيدا وطنيا وملحمة بطولية،محاولين تهدئة الشارع الذي يعرف حراكا شعبيا. لقد ضاق الشعب الجزائري الشقيق درعا من ضيق العيش ومحنة الطوابير والرعب اليومي الجاثم على النفوس... الرياضة أخلاق وسمو إنساني نبيل...حاولوا أن تستفيقوا من غيكم،رغم أن داء العطب قديم... محمد بنطلحة الدكالي
ساحة

صرخة من قلب المهنة: الفوضى تُهين الإرشاد السياحي بمراكش
في سياق التحديات التي تعصف بمهنة الإرشاد السياحي في مراكش، يعرض هذا المقال وجهة نظر عدد من المرشدين السياحيين الذين يعانون من تدهور أوضاعهم المهنية بسبب ظواهر التسيب والتنظيم غير القانوني داخل القطاع. ومن المهم التنويه إلى أن ما يطرحه هذا المقال يعكس آراء مجموعة من المهنيين الذين يواجهون هذه التحديات بشكل يومي، وهذا نص المقال: "الانتسابات غير القانونية، المنافسة الفوضوية، وتواطؤ الصمت... من يُنقذ كرامة المرشدين؟ الوضع لم يعد يحتمل. مهنة الإرشاد السياحي، التي لطالما كانت واجهة حضارية للمغرب، تتعرض اليوم في مراكش لتشويه ممنهج، وسط تراخٍ واضح من السلطات المحلية والمركزية، وصمت مريب من الهيئات المهنية والتنظيمية. منذ سنوات، والمرشدون النظاميون يرفعون الصوت في وجه ظاهرة تتفشى في الخفاء: مرشدون غير مُعيّنين في المدينة يحصلون على انتساب غير قانوني داخل جمعية مهنية محلية، ويزاولون عملهم بشكل حرّ، ضاربين عرض الحائط بقوانين التعيين والتنظيم. القانون يُنتَهك والمهنة تنهار ما يجري ليس فقط خرقًا إداريًا، بل تقويض لمبادئ العدالة المهنية. المرشدون غير المعينين في مراكش يتعللون بأن القانون يمنحهم هذا الحق، مستندين إلى تأويلات شخصية تخدم مصالحهم، دون اعتبار للواقع القانوني أو الإداري، في وقت يُقصى فيه المرشدون الملتزمون ويُجبرون على تقبل التهميش. كرامة المرشد تُباع في سوق الأسعار تدهور آخر يسجله المهنيون يتمثل في اشتعال حرب أسعار مدمرة، حيث يعمد بعض المرشدين إلى خفض تسعيرتهم بشكل مبالغ فيه، ما يؤدي إلى ضرب جودة الخدمات في العمق، والإضرار بسمعة المدينة لدى السياح. "عندما يتحول المرشد إلى بائع خدمة رخيصة، فإن التفاعل، والمعلومة، والاحترافية تكون أولى الضحايا"، يقول أحد المرشدين المحليين. جمعيات متهمة... وسلطات غائبة عدد من الأصوات داخل القطاع تتهم بعض الجمعيات بالتواطؤ، حيث تُمنح بطاقات الانتساب بشكل غير قانوني، وأحيانًا مقابل مبالغ مالية، دون احترام لشروط التعيين الترابي ولا ضوابط المزاولة. المرشدون يطالبون اليوم بتحقيق رسمي في هذه الانتسابات، ومساءلة الجهات التي تغضّ الطرف عن هذه الفوضى، والتي تهدد المهنة من الداخل. السياحة تتطور... والمهنة تتآكل في وقت تتغير فيه تطلعات السياح نحو تجارب غنية، وتفاعلية، ومستدامة، يواجه المرشدون الملتزمون خطر الإقصاء على يد فوضى تنظيمية تُفرّغ المهنة من معناها وقيمتها الثقافية. المرشدون يطالبون بالتحرك... الآن! دعوات متصاعدة لإيقاف النزيف: فتح تحقيق عاجل في الانتسابات العشوائية؛ توقيف غير الملتزمين بالتعيين الرسمي؛ إصلاح جذري لهياكل الجمعيات المهنية؛ وتدخل فعلي لوزارة السياحة وولاية الجهة قبل فوات الأوان."
ساحة

“الحق المهني المسلوب”: من يُسكت صوت المرشدين السياحيين؟
في قطاع يُعدّ من الركائز الأساسية للاقتصاد المحلي والوطني، يجد مئات المرشدين السياحيين بجهة مراكش-آسفي أنفسهم في مواجهة تحديات مهنية وإدارية متزايدة. وسط غياب آليات فعالة لحماية حقوقهم، تتعالى أصواتهم مطالبة بالإصلاح، لكن هل من مجيب؟ هذا المقال يعكس انشغالات مجموعة من المهنيين الذين يرون أن الممارسات التنظيمية الحالية تُقصيهم بدل أن تدمجهم، ويطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل المهنة، وهذا نص المقال:"في قلب القطاع السياحي بمراكش-آسفي، يعيش مئات المرشدين حالة من التهميش الممنهج، في ظل تراكم ممارسات إدارية وتنظيمية غير متوازنة، وغياب الآليات الفعالة التي تضمن العدالة المهنية. الوضع الحالي يفرض علينا طرح أسئلة جريئة: من يُراقب؟ من يُحاسب؟ ومن يُنصف من لا صوت له؟جمعية في وضعية مخالفة... بلا محاسبةللسنة الثالثة على التوالي، لم تعقد الجمعية الجهوية للمرشدين السياحيين أي جمع عام، ولم تُعرض أي تقارير مالية أو أدبية، ومع ذلك تواصل تحصيل واجبات الانخراط، وتسليم الشهادات وكأن شيئاً لم يكن.أين دور المراقبة؟ من يتحمل مسؤولية تفعيل آليات الشفافية الداخلية؟ أليس استمرار هذا الوضع يمثل خرقاً لمبادئ الحكامة المهنية؟التكوين الرقمي: برنامج غير منصف لفئة واسعةفرض شهادة التكوين الرقمي ضمن وثائق تجديد الاعتماد جاء بهدف التأهيل، لكنه لم يُرفق، حسب عدد من المهنيين، بآليات واقعية لضمان مشاركة حقيقية ومتساوية، مما خلق شعوراً بالإقصاء لدى شريحة واسعة من المرشدين:مشاركات شكلية أو بالنيابة.غياب دعم فعلي للفئات غير المتمكنة من التكنولوجيا.شهادة تُمنح دون تأكيد فعلي لاكتساب المهارات.النتيجة؟ تكوين تحوّل إلى عبء إداري لا يراعي خصوصية الميدان.تجديد الرخصة: منطق الورق أم منطق الكفاءة؟المرشدون يقدمون ملفاتهم كاملة، لكن العديد منهم يُدرك أن ما يُطلب ليس بالضرورة انعكاساً حقيقياً للخبرة أو القدرة. شهادات انخراط صادرة عن جمعيات غير مفعلة تنظيمياً، وشهادات تكوين دون مضمون فعلي، فهل هذه مؤشرات تأهيل حقيقية؟ أم مجرد إجراء شكلي؟الشهادة الطبية: سؤال حول العدالة المهنيةيشكل شرط الشهادة الطبية عائقاً أمام عدد من المرشدين الذين يعانون من أمراض مزمنة أو حالات صحية مؤقتة. فهل العجز المؤقت أو الإعاقة الخفيفة تعني بالضرورة عدم الأهلية؟ وهل من العدل أن يُقصى شخص فقط لأنه يخضع لعلاج منتظم أو يعيش مع إعاقة بسيطة لا تمنعه من أداء مهامه؟الضمان الاجتماعي: بين التعقيد والإجحافيعاني عدد من المرشدين السياحيين من صعوبات متزايدة في تسوية وضعيتهم مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، في ظل غياب مواكبة فعلية تأخذ بعين الاعتبار طبيعة عملهم المستقل وغير المنتظم. ومن أبرز الإشكالات المطروحة:تعقيد مساطر الانتظام وتسديد المستحقات القديمة.تراكم مبالغ يصعب سدادها دفعة واحدة.وجود اقتطاعات بنكية غير دقيقة في بعض الحالات.تعرض المرشدين مزدوجي الجنسية لأداء مزدوج للواجبات دون تنسيق واضح بين الدول.هذا الوضع يُفاقم الهشاشة الاجتماعية للمرشدين، ويُفرغ التغطية الاجتماعية من مضمونها، ويُرسخ الإقصاء بدل الإدماج.مطالب مهنية ملحةافتحاص إداري ومالي للجمعية الجهوية ضماناً للشفافية.مراجعة آليات استخراج شهادات التكوين والانخراط.تيسير شروط الشهادة الطبية بشكل إنساني وعادل.فتح حوار مهني موسع لتصحيح المسار التنظيمي دون توتر أو صدام.رسالة مفتوحة لكل ضمير مهنيهذا المقال ليس مجرد وصف لاختلالات مهنية، بل هو نداء صادق يلامس كرامة كل مرشد سياحي. لسنا بصدد مطالب تعجيزية، بل نطالب فقط بما يضمن الاستمرارية في العمل بكرامة: تنظيم شفاف، تمثيلية شرعية، تكوين فعلي، وحماية اجتماعية عادلة.لقد طال الصمت، وكثُر التغاضي، وحان الوقت لنُعيد للمهنة صوتها ومكانتها. صوت المرشد ليس هامشيًا... إنه صوت الثقافة، والتاريخ، والانتماء."
ساحة

يونس مجاهد يكتب: مصداقية الخبر وطُعم النقرات
موضوع مصداقية الأخبار ليست جديدا في ثقافتنا، بل إنه متجذر فيها، وهناك مرجعيات كثيرة تحيلنا على الأهمية القصوى التي أوليت للفرق بين الخبر الصادق والخبر الكاذب في تراثنا، و لا أدل على ذلك من الآية الكريمة " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ". فالعودة لهذه المرجعيات سيكون مفيدا في مقاومة المد الجارف للتضليل والأخبار الملفقة والإثارة الرخيصة، التي يسعى تجار شبكات التواصل الاجتماعي إلى جعلها وسيلة للتشهير والإساءة، ومصدر اغتناء، غير عابئين بالقيم النبيلة التي من المفترض أن نتقاسمها كمجتمع. إن العودة إلى مرجعيتنا الحضارية والثقافية كفيل بأن يساهم إلى حد كبير في توفير وسائل وأدوات مقاومة الإتجار الرخيص في حرية التعبير، ففي مقدمة ابن خلدون التي أسست لعلم العمران البشري، هناك تدقيق مذهل لضرورة التمحيص في الأخبار، حيث يقول إنه من الضروري التمحيص والنظر في الخبر، حتى يتبين صدقه من كذبه، لأن الابتعاد عن الانتقاد والتمحيص يقع في قبول الكذب ونقله. ويضيف أن من الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار، أيضا، الثقة بالناقلين، وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. ومنها الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه، فيقع في الكذب. إن ابن خلدون، الذي سبق عصره، يتحدث هنا عن مصادر الأخبار، التي يعتبر أنه من غير الممكن تصديق ما تنقله بدون إعمال العقل النقدي. وهو من صميم العمل الصحافي، حيث أن التأكد من مصادر الأخبار ومدى مصداقيتها، هو جوهر المهنة، وهو أيضا ما يدرس اليوم في التربية على الإعلام، إذ أن أهم مبدأ يوصى به هو عدم تصديق أي "خبر"، إلا بعد التأكد من المصادر، أولا، ثم التمحيص والنظر في هذا الخبر، كما يقول ابن خلدون، ثانيا، لغربلته وإخضاعه للعقل والمنطق. وفي هذا الإطار، تؤكد التجربة، أنه لا يمكن للمجتمعات أن تستغني عن الصحافة المهنية، في تداول الأخبار، لأنها تكون صادرة عن صحافيين محترفين، يتوفرون على تكوين وخبرة ومستوى علمي، والأهم من ذلك، أنهم يشتغلون في بيئة صحافية، أي ضمن هيئة تحرير وميثاق أخلاقيات وقواعد العمل الصحافي. ولا يمكن لشبكات التواصل الاجتماعي أوما يسمي ب"المؤثرين"، أن تعوض العمل الصحافي الاحترافي، بحجة أنها "صحافة مستقلة"، فليس هناك إلا صحافة واحدة، إما أن تكون احترافية موضوعية وذات مصداقية، تعمل طبقا لأساسيات مهنة الصحافة وتقاليدها، أو لا تكون. الصحافي الحقيقي، كالمؤرخ، يقول عبد الله العروي، في كتابه "مفهوم التاريخ"، إذ يعتبر أن العديد من الملاحظين يشبهون الصحافي بالمؤرخ، فيقال إن الأول مؤرخ اللحظة، بينما الثاني صحافي الماضي، كلاهما يعتمد على مخبر، وكلاهما يؤول الخبر ليعطيه معنى، الفرق بينهما هو المهلة المخولة لكل واحد منهما، إذا ضاقت تحول المؤرخ إلى صحافي، وإذا عاد الصحافي إلى الأخبار وتأملها بعد مدة تحول إلى مؤرخ، أما إشكالية الموضوعية وحدود "إدراك الواقع كما حدث"، فهي واحدة بالنسبة لهما معا. والمقصود هنا، حسب العروي، هو أن كلا من الصحافي والمؤرخ، عليهما تحري الدقة في الأخبار والحوادث المنقولة، واعتماد المصادر الموثوقة، مثل التغطية الميدانية وشهود العيان أو معايشة الأحداث، بالإضافة إلى الوثائق والآثار الدالة على ما حصل... هذه هي الصحافة المستقلة، عن التلفيق والكذب والإثارة المجانية واستجداء عدد النقرات. ويعتبر اليوم "طُعم النقرات "clickbait، من الآفات الكبرى التي أصابت الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبح العديد ممن يسعون إلى تحقيق الأرباح، بأية وسيلة، اللجوء إلى تشويه الحقيقة وتقويض القيم الصحفية التقليدية، مثل الدقة والموضوعية والشفافية، همهم الوحيد هو الدخول في مهاترات وجدل عقيم، و اعتماد عناوين مثيرة، و كتابة أو بث كل ما يمكن أن يثير الفضول بدون معنى أو محتوى و بدون مصدر موثوق، كتاباتهم أو احاديثهم تتضمن تناقضات كثيرة، لكن كل ذلك يهون، بالنسبة لهم، أمام ما يمكن أن يحققونه من مداخيل. لذلك رفعت العديد من التنظيمات الصحافية في تجارب دولية، شعار؛ "لا تنقر"، أي تجنب طُعم الإثارة التجارية الرخيصة، التي تشوه الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي.
ساحة

التعليقات مغلقة لهذا المنشور

الطقس

°
°

أوقات الصلاة

الأربعاء 23 أبريل 2025
الصبح
الظهر
العصر
المغرب
العشاء

صيدليات الحراسة