"أليس" في بلاد العجائب
كانت مغامرات," أليس" في بلاد العجائب ملاذا يوميا لنا بعد يوم متعب في فصول الدراسة، لم يكن تعبه نتيجة لكثرة التحصيل العلمي أو كثافة الدروس، إنما كان بسبب ثقل وزن محفظة قوست
ظهورنا جيئة و ذهابا، و أيضا بسبب اللعب و "التنقاز" على الطاولات فوق رؤوس قلة قليلة من المجتهدين أصحاب الصفوف الأمامية على اعتبارهم أعين غالبية أساتذتنا الأجلاء و أستاذاتنا الفاضلات حين غيابهم المستمر عن موقعهم الطبيعي أمام السبورة، لانشغالاتهم بأحاديث فيما بينهم تلامس كل شيء إلا وظيفتهم، و حتى حين حضورهم كأجساد دون روح يبدو عليهم الغرق في أفكارهم الخاصة لكثرة همومهم اليومية...
مرت السنين، كبرنا و كبر القسم معنا حتى صار حجمه بحجم الوطن، و ظلت" أليس" برمزيتها متواجدة في كل واحد منا... لتعيش "أليسنا" عجائب كل يوم، كل ساعة، كل لحظة في بلادها... بلاد العجائب.
العجب الأول:- التناقض- دولة الحق و القانون، هذا الشعار الذي ترعرعنا معه بعد أن ناضل من أجله جيل شباب الستينيات و السبعينيات و الثمانينيات من القرن الماضي، ما هو اليوم سوى
مصطلح فضفاض فقد كنهه لكنه مازال به بريق يظهر جليا حين يلمعه الساسة عندما يرومون الوصول إلى كرسي مريح... قرارات مناقضة لروحه و عمق الدستور الذي نادينا يوما بالتصويت له بنعم... دستور يكفل حرية التعبير و قانون عرفي و رسمي يمنعه، دستور يضمن حرية المعتقد، و تيار شعبي (غير رسمي) يدينه كما تفعل نصوص القانون... تناقض غير مفهوم البتة، لا صورة أقرب منه خير من جملة شهيرة لها أكثر من دلالة أطلقها مواطن نصب نفسه وصيا على الناس ذات وقفة أمام البرلمان "هادي بلاد الإسلام آ ولاد العاهرات"... فعلا و نعم الصورة عن خلق الإسلام الذي يطالب صاحبنا بتفعيلها، متناسيا أن جملته تبقى صحيحة إن نحن قلبنا عباراتها "هادي بلاد العاهرات آ ولاد الإسلام" فكلتاهما صحيحتان و كلتاهما تترجمان تناقضا نعيشه.
العجب الثاني:- النفاق- لا أكبر من أن تنافق نفسك، حينها تنافق الجميع... هكذا كانت ملاحظة" أليس" الأولية عن العجب الثاني الذي تعيشه دون قدرة عن التعايش معه... شباب يناقش الحلال في الحانات، بعضهم يقول الحمد لله بعد آخر رشفة من كأس نبيذ أو قنينة بيرة، أشخاص مجتمعون حول طاولة في مطعم "ماكدونالدز" يضعون آخر اللمسات على تفاصيل وقفتهم المقررة غدا للتنديد بالرأسمالية و بعدوان أمريكي أو إسرائيلي على مكان ما، أناس ينددون بالدعارة علنا، و بقدرة قادر يصيرون زبائن في الخفاء حين يخيم الظلام... قوم ينعم بالسباحة في التخلف و الرجعية، يقصي المخالف له بالعنف (اللفظي و الجسدي و النفسي) و يحلم بتأشيرة إقامة في السويد؟؟؟ 160 ألف شخص يحضرون عرض" جينيفر لوبيز" مباشرة و الملايين تتابعه عبر القنواة الرسمية... نفس العدد يطالب برأس "نبيل عيوش" و" لبنى ابيضار"... وزير يمنع السينما و ينقل في التلفزيون... ملايين رفعت رقم مشاهدات افلام البورنو بالمغرب ليحتل مكانة ضمن الأوائل في العالم، نفس الملايين تنادي بالأخلاق... فهم تتسطى...
العجب الثالث:- العاهات- الكبت اولها و منتهاها، فهو سبب مباشر في التحرش و الاغتصاب و زنا المحارم، و استغلال الأطفال جنسيا في محل بقالة أو مسجد أو مسيد أو بيت... هذا فقط ما نسمع عنه يوميا من حوادث يضبط أصحابها، و ما خفي كان اعظم. و الكبت ليس فقط قمعا لرغبة دون فعلها، فالفعل موجود يمارس بشكل واسع الانتشار، سواء في إطار ما يسمونه علاقات "غير شرعية" خارج إطار الزواج، أو باللجوء إلى بائعات الهوى بل هو -الكبت- تحويل فكرة الجنس إلى بعبع يتم التفكير فيه و التفعيل لممارسته في الخفاء، و كأنه جرم ليتم الحديث عنه علنا باستهجان و استنكار... عاهة أخرى لا تقل انتشارا عن سابقتها، وقفت أمامها "أليس" في عجب و هي القبح... فأينما ولت "أليس" وجهها تم قبح تتعرف بسهولة على أوجهه التسعة و التسعين... الأشكال
قبيحة، التصرفات قبيحة، الأذواق قبيحة، حتى القبح قبيح عنيف لا يرحم.
العجب الرابع:- الجهل- الجهل بأبسط القيم الإنسانية هو أخطر أنواع الجهل، قيم هدفها الرقي بالانسان و تشريفه و تكريمه بعيدا عن كل تصنيف ضيق مبني على خانات مؤقتة زائفة تتنوع بين العرق و الدين و الايديولوجيا و النوع و الطبقة و غيرها... هذا الجهل الذي لا يراه أصحابه هكذا، هو الأصل أيضا في رفض الإختلاف و تصريفه بطرق لا تمس للإنسان و حضارته بأي صلة... ليصير بهذا معنى "الجاهل" في اللغة العربية الفصحى منطبقا على صاحبه بالمعنى الدارج أيضا... هكذا يجمع صفتان ينكرهما عن نفسه...
العجب الخامس:- الخبرة- تعجبت أليس في موسوعية سكان البلاد و غياب مفهوم التخصص عن قواميسهم الكثيرة، فلم تستيقض بعد من تأثيرات العجب السابق حتى صفعها هذا العجب الذي نحن بصدده، الكل يفهم في كل شيء، خبرة في الرياضة و الرياضيات، قدرة على التحليل السياسي، كفاءة في النقذ السينمائي و الفني، مؤهلات في التحليل السوسيولوجي و البسيكولوجي، درجة دوكتوراه في الطب، و إحاطة بالدين تخول إصدار الفتاوى، آراء عميقة في الفيزياء و الفلك و الهندسة و الكيمياء تستحق كلها جائزة نوبل... كفاءات و خبرات مجتمعة في نفس الشخص... الجاهل.
العجب السادس: -"نا"- الدالة على الجماعة الانتماء حاجة نفسية لكل إنسان، و من حق أي كان الانتماء لأي جماعة أو فئة مهما كانت شرط الاقتناع بها، لكن المصيبة تتجلى بعد هذا الانتماء باستعمال "نا" الدالة على الجماعة لضم الجميع لما تنتمي إليه، على اعتبار انك و جماعتك "الحق" و "الأصل" و ما يجب أن يكون، في حين غيرك من المخالفين لقناعاتك و انتمائك مجرد خطأ وجب تصويبه، هكذا إما تقصيه، و إما تفرض عليه بقوة لم تستوعب" أليس" من أين تستمد مشروعيتك في استعمالها لتجعله نقطة من نائك الدالة على جماعتك...
العجب السابع: الوصاية لم تعرف" أليس" أين تصنف هذا العجب، هل في خانة المرض النفسي أم الظاهرة الاجتماعية، حيث سرعان ما أنهت حلقة هذا العجب و تقززت بسرعة من اولئك الذين أقالوا الله و نصبوا أنفسهم خليفة له يحاسبون و يوزعون تذاكر الجنة و جهنم على من فرضوا وصايتهم عليهم، و اولئك الذين ضربوا في الصفر مفاهيم كالمجتمع و التعدد و الاختلاف و التنوع
ليصيروا هم رعاته و حماته...
العجب الثامن: روح المسؤولية لا أحد مسؤول عن السلبي ممن خاطبوا "أليس" في بلاد العجائب أو التقتهم، لكن جميعهم صاحب الفضل في نقط الضوء الإيجابية المعدودة على أصابع اليد الواحدة، هكذا بدت المسكينة حزينة لعدم قدرة منطقها على تقبل فكرة: كيف للوقت أن يمضي؟ كيف للحائط ان يضرب؟ كيف للباب أن يغلق؟ كيف للكأس أن ينتحر بكسر نفسه؟ لم تفهم من هم ال "هم" الذين يقترن ذكرهم بالمسؤولية... هكذا جمعت "أليس" عجائبها الثمانية و حملتها خلفها و هي تمضي و في يدها جواز سفر و تأشيرة و تذكرة ذهاب دون عودة....