هي حرارة مفرطة، جاوزت كل التوقعات، وبالنظر لتزامنها من أيام الشهر الفضيل، فإن وقعها على الأجساد والأرواح المنهكة، بكل تفاصيل خريطة الفقر، التي تتسع رقعتها لشمل السواد الأعظم من الساكنة، فكانت الحاجة ملحة للبحث عن بدائل، لا تقف الحسابات المادية والمالية، في وجه توفرها، لتكون الحصيلة ما اصطلح عليه في العرف المحلي ب" كليماتيزور الفقراء" أو بتعبير الطرافة والبداهة المراكشية ب"المضمضمة" و"النافورة"، ومياه"العنبوب" في إشارة واضحة، للاقبال الكثيف على هذه "التويشيات"، بحثا عن انتعاشة، تعيد الرمق والروح للأجساد المنهكمة من أثر الصيام في عز موجة الحر العاتية .
فسيرا على نهج الطرافة التي تميز الشخصية المراكشية لجأ بعض المراكشيون والمراكشيات إلى ابتكار أساليب طريفة لمواجهة موجة الحرارة التي تضرب بأطنابها مختلف فضاءات المدينة في عز ساعات الصيام ، وإتاحة الفرصة أمام أجسادهم المنهجكة لاقتناص "تبريدة"غير مكلفة.
أصبحت بعض السواقي والنافورات مجالات مشاعة قابلة لاحتضان عشرات الأجساد والإرتماء في حضن مياهها المنسابة ،فيما لجا البعض الآخر إلى الإستعانة بأكياس بلاستيكية، محملة بقطع الثلج، ووضعها على الرؤوس الساخنة،اتقاءا لحمارة قيض متأججة.
مواطنات ومواطنون بسطاء، أرغمتهم إكراهات الحياة،ومتطلبات العيش على مغادرة ظلال جدران البيوت، والخروج للشوارع القائضة، التي تنفت في وجوههم شآبيب حرارتها في عز ساعات الصيام، وتحت إكراهات الأجساد المتهالكة، والارواح المتعبة، كانت الينابيع المذكورة تغري باقتناص نفحة برد"شاردة".
"تحميمة باردة، احسن من تخميمة جامدة"، قال شاب مبتسما لمرافقته،قبل أن يلقي بنفسه بكل ثيابه وسط زحمة الاجساد ، بالنافورة المتواجدة أمام فندق السعدي، لتتبعه مرافقته غير مبالية بابتلال ملابسها، وعلامات الإنشراح بادية على الوجوه.
أينما يفور الماء، فتمة إمكانية لتبريد الاجساد المنهكة بفرط الحرارة ، وإكراهات واجبات الصوم، فاصبحت كل السواقي و النافورات، وحتى بعض انابيب المياه المبتوتة بالحدائق العمومية وبعض السقايات العمومية التي قاومت زحف الإغلاق، مسرحا لمشاهد عوم عمومية، يختلط فيها الذكور بالإناث دونما حرج،والشعار طبعا، "كل شيء يهون في سبيل تخفيف حرارة الاجساد الملتهبة".
مواطنون آخرون وبالنظر لسنهم ومظهر الوقار الذي يقيد شخصياتهم، دفعتهم ظروف"الحشمة"لابتكار اساليب أخرى لا تقل طرافة وغرابة،فاصبح عاديا،مشاهدة سيدة منقبة، وهي تقود دراجتها النارية، وقد شدت بيدها اليسرى، كيس بلاستيكي ملفوف على قطعة ثلج فوق رأسها،ولسان حالها يردد" اللهم حوالينا لاعلينا".
صنوف الفقر والحرمان، وغياب فضاءات للتنفيس، جعلت المراكشيات والمراكشيين،يبتهلون أساليب طريفة، لتبريد الاجساد الساخنة في عز ساعات الصيام، فاصبح عاديا، مشاهدة سيدات طاعنات في السن، محملات بقنينات بلاستيكية، محملة بمياه مثلجة، وكل فترة وحين تقف إحداهن لتصب على وجهها بعضا من حمولة القارورة، لتفسح المجال بعدها لتنهيدة تنفتها النفس المتعبة بغير قليل من أحاسيس الإنتعاش .
القنينات المومأ إليها أصبحت من لوازم "قفة الخضر"، فلكل ربة بيت قنينتها "المعتبرة"، تقتنص منها نفحة تبريدة كلما اعجزتها حرارة الجو على خطو الخطوة.
ولأن الحكمة المأثورة تؤكد أن:" الحاجة، أم الإختراع". فإن الإختراع هذه المرة، جاء بصيغة الجمع. فاختار بعض سكان المدينة،وسيلة بسيطة بساطة ناسها، لمكافحة ارتفاع درجة الحرارة، في عز أيام الصيام، فكانت التخريجة في شكل، جهاز رش محمول، عبارة عن قارورات بلاستيكية مزودة بأداة رش، تمنح زخاتها بعضا من انتعاشة عز مطلبها في ظل أجواء الطقس الحارة.
جهاز أصبح خلال السنوات الأخيرة في حكم المعتاد والمألوف كلما عن لموجة الحر أن ترخي بسدولها على فضاءات المدينة يتم تفعيله تحت إسم، " المضمضة"، كعنوان لماركة مسجلة تحفظ براءة الإختراع.
ف"المضمضة" حسب التعبير المراكشي،عادت بدورها للظهور في فضاءات المدينة وشواعها، وبات العديد من المواطنين يحملون "رشاشات صغيرة" محملة بمياه مثلجة، يرشون بعض مياهها على الوجوه المتأثرة بارتفاع موجة الحرارة.
من المظاهر المالوفة كذلك، مشاهدة رب اسرة يقود دراجته النارية،وقد اردف خلفه زوجته وامامه طفله الصغير،وبيده اليسرى، يحمل "مضمضته" ، ينفت بين الفينة والأخرى بعض محتوياتها في وجوه افراد الاسرة الكريمة،لمنح"لوليدات" نفحة تبريدة،عز مطلبها في ساعات الذروة.
ولأن للفعل الجماعي سحره، فقد انتقلت العدوى لقبيلة السياح الأجانب، الذين وجدوا أنفسهم يجوبون شوارع مراكش القائضة، و السماء تقذف وجوههم وأجسادهم بهذا اللظى الحارق، ل"يسلموا" امرهم، لابتكارات السكان المحليين ، ومن تمة الإقبال الكثيف على اقتناء أجهزة الرش، فأصبح لكل سائح"مضمضته" الخاصة، لاتفارق يمناه، كلما عن له مغادرة غرفة الفندق المكيفة، والإرتماء في أحضان الشوارع والازقة.
" رش الخوا شي رشيشة الله يبرد عليك صهد النار" قال شاب توقف بدراجته النارية امام شاب كان بصدد اقتناء بع الفواكه بسويقة باب دكالة، ودون تردد بادر لمعالجة الطالب "برشيشات "باردة من مضمضته، لينتعش صاحب الدراجة، ويمرر كلتا يديه على وجهه، ويدعو لصاحبه ب"الصحة وطول العمر" ويطلق بعدها لدراجته العنان.