لرمضان في مراكش طقوسه وتقاليده، فالمدينة تفرد جوا خاصا لهده المناسبة الدينية لتي تعتبر احدى أهم المناسبات في حياة أهل الحضرة المراكشية.
فما أن يأذن شهر شعبان بالرحيل حتى تنطلق عملية التحضير وتتأهب المدينة لاستقبال الشهر الفضيل بما يليق به،وسرعان ما تتدثر مجمل الفضاءات بحلة حلة فريدة يعز وجودها في غير هذا الشهر الابرك ، لتؤثت الأمكنة والأحياء والدروب موائد الحلويات وكل انواع الفطائر استعدادا لاستقبال هذا الشهر بما يليق به .
وإذا كان بريق الحداثة، وإكراهات اللتطور الزاحف، قد أفقد المدينة التي دخلت مصاف المدن الدولية الكثير من عاداتها التي تحيل إلى الزمن الجميل، فإن بعض التقاليد الدينية الراسخة لازالت مصرة على الإحتفاظ بالعديد من المشاهد والعادات التي ظلت تميز الليالي الرمضانية بعاصمة المرابطين وتمنحها خصوصيتها وفرادة،كحاضرة متجذرة في عمق التربة والتاريخ المغربي الأصيل.
فعديدة هي العادات والتقاليد التي تنفرد بها مدينة الرجالات السبعة وساكنتها ، عن غيرها من بقية المدن والحواضر المغربية حيث تمتح المدينة من عمق ثراتها وتاريخها وتنسج علائق وعادات خاصة يصعب استيعابها على غير أهل الحضرة المراكشية، ولعل اهم مميزات ليالي رمضان ببهجة الجنوب هو تلك السمفونية الليلية التي تتردد طيلة شهر رمضان، ويشكل ثلاثي: النفار ،الغياط ،والمهلل جنودها المجهولين ، حيث يتعاقبون في نظام مدروس على امتطاء صهوات صوامع مساجد المدينة ، ومن تمة يشرعون في عزف اعذب الالحان والانغام الروحية ،فتسمع الغياط يردد بآلته الموسيقية" الغيطة" مرثية " السيف البتار" لسيدي احمد بناصر :
يا ربنا يا خالق الأنفاس حل بيننا وبين شر الناس
يا ربنا يا خالق العوالم حل بيننا وبين كل ظالم
ليجيبه النفار بمعزوفته الشعبية ذات الارتباط الوثيق بقصة صعوده للمئذنة :
عودة كالت رمضان بالخوخ والرمان
اغفر ليها يارحمان
فيرد المهلل بصوته الرخيم ببعض قصائد التوسلات والمدح النبوي:
تشفع يا رسول الله فينا فما نرجو الشفاعة من سواك
كل ذلك والعيون شاخصة الى صومعة مسجد بن يوسف التاريخي ،وبالضبط الى مصباحها الكهربائي الذي ينظم الاوقات بين هذا الثلاثي الرائع ، ليتحول بذلك الى مايسترو
اوركيسترا يوزع الادوار والنوبات بين مختلف العازفين والفنانين .
وإذا كان للغيطة أو الغياط قصة شعبية مثيرة ، يرويها أهل المدينة بغير قليل من الإعتزاز ، وترجع بأصولها وأسبابها إلى نبي الله سليمان، الذي أتاه الله بحكم واسع بسط عبره السيطرة على الإنس والجن والطير والوحش.
تروي الحكاية الشعبية المراكشية أن النبي سليمان قد اغتر يوما بقوة سلطانه وسلطاته ، واستبدت به في لحظة شعور بفائض عظمة واقتدار حالة تيه وتكبر،فنطق لسانه بما يعتمل في صدره فأطلقه قولته المشهورة :"من ذا يملك سلطانا أعظم من سلطاني."، دون أن يحمد الله تعالى الذي سخر له كل هذه القوة والسلطان.
عقابا لسليمان على هذه الهفوة المشبعة بتلاوين الكبر والتكبر، سلط عليه الله أحد اضعف سلاطينه، وهو سلطان النوم، لتلم به غفوة طويلة، لم يعد يشعر معها بالحياة من حوله، فيما أجبرت حاشيته ومحيط بلاطه على البقاء في الإنتظار وترقب أن يستيقظ من نومته التي طالت أكثر من اللازم، دون أن يملك أحد منهم الجراة على إزعاجه والمبادرة بإيقاظه، بالنظر لمهابة سليمان في القلوب.
ظل الجميع في حالة انتظار يضرب اخماسا في أسداسا إلى أن تقدم ملك الجن بفكرة ، بدت عبقرية في حينها، حين ابتكر آلة الغيطة، وبدأ يشدو بألحانها ،جوار مخدع نوم سليمان، إلى أن استيقظ، وانتبه لما وقع به من محظور جراء غروره،ومن تمة استغفر الله واستعاد به من الشيطان الرجيم. لتأخذ الغيطة من يومها طريقها اتجاه صوامع المدينة خلال شهر رمضان،وتمنح تسمية"مؤنس المرضى"، بالنظر لما تجود به أنغامها الشجية التي تصدح في ساعات الليل المتأخرة، من صنوف الأنس والمؤانسة وتمنح للمرضى وكل الذين يعانون، إمكانية التغلب على وحشة الوحدة والظلمة.
أما بالنسبة ل"النفار"، فترجع الحكاية المراكشية سبب صعوده فوق صوامع مراكش خلال كل رمضان إلى "عودة السعدية" أم السلطان المنصور الذهبي، التي كانت تتجول ذات زوال رمضاني وسط بستانها اليانع بكل ما لذ وطاب من أنواع الفواكه ، فلم تشعر إلا ويدها تمتد لخوخة شهية، تناولتها بلذة وشغف ،قبل ان تنتبه إلى كونها في حالة إمساك وصيام ، وفي محاولة للتكفير عن هذه الهفوة قررت تسخير وتجنيد اصحاب النفار، للصعود فوق صوامع مساجد المدينة، والسهر على عزف اناشيد وتراتيل، تنبه ألحانها الغافلين، وتوقظ النائمين، لتبقى العملية بذلك سنة جارية في تاريخ المدينة،ولياليها الرمضانية.